حول كامل مر منذ رأيت المصريين فرحين. عام كامل بأيامه ولياليه منذ خرج المصريون إلي الشوارع بحثا عن ماء وهواء وأملا في وجه حسن. وبغض النظر عن المهاترات والسخافات والرذالات. و التي يعمد البعض إلي الزج بها إلي ما تبقي لدينا من أفراح ومناسبات غير مفتعلة وخالية من النفاق والرياء ومحاولة وأد فرحة شم النسيم, إلا أن المصريين مازالوا متشبثين بهذه المناسبة.. نعم, نحن مصممون ومصرون علي الاحتفال بعيد الربيع, سواء كان أصله مسيحيا أو فرعونيا أو حتي مالوش أصل خالص.. فرحة حقيقية رأيتها وكنت قد اعتقدت أنها ولت وأدبرت علي وجوه الناس الذين تكبدوا عناء الاستيقاظ مبكرا, وتجهيز حقيبة بها صنوف من الطعام والشراب, وغطاء من القماش القديم يفرشونه علي الأرض أو الحديقة أو حتي الرصيف ليحتفلوا بشم النسيم.. ابتسامات حقيقية علت الوجوه, اجتماعات غير معهودة لكل أفراد الأسرة: الأب المطحون, والأم المسحولة, والأبناء الذين يئنون من تعليم عقيم, وأحيانا الجد الذي أحيل إلي المعاش فاعتقد أن مهمته باتت تتلخص في انتظار الرحيل عن الحياة الدنيا, وربما الجدة التي باتت لا تبرح البيت إلا لتقديم واجب العزاء أو للذهاب إلي المستشفي. في كل عام يثبت المصريون في هذا اليوم العبقري أن الإرادة تقهر أي عقبات. والعقبات التي أقصدها هنا تتراوح بين عدم وجود رصيف يمشون عليه, أو شارع يعبرونه دون أن يحملوا أكفانهم معهم, وبين افتقاد المواصلات العامة لأبسط قواعد الآدمية, وبين انغماسهم من رءوسهم حتي أقدامهم في هموم الحياة اليومية, والأمثلة كثيرة. لكن العقبة الكبري هي أن مصر مافيهاش أماكن في الهواء الطلق يمكن لسكانها أن يستمتعوا فيها دون أن يضطروا إلي تناول الغداء في مطعم خمس نجوم أو دخول ناد تقتصر أبوابه مغلقة علي أعضائه. هذه العقبة تنقشع تماما في هذا اليوم. رأيت عائلات في حديقة الجزيرة العامة, ورأيتهم عند حديقة الحيوان, ورأيتهم علي الكورنيش, ورأيتهم في الجزيرة الصغيرة المزروعة بين الشوارع الكبيرة المتخمة بالسيارات, ورأيتهم أعلي الكوبري, ورأيتهم أسفله, ورأيتهم في ممر صغير لكنه مزروع أمام سنترال حكومي. لكن الأهم أنني رأيت أنهم مازالوا قادرين علي ابتكار الأماكن, وعلي اقتناص الفرصة للخروج, وعلي الاحتفاظ بتلك الابتسامة العبقرية التعليم تاني ورغم أنف القلة المنحرفة التي تحاول أن تزرع الكراهية في قلوب المصريين تجاه شم النسيم, واعتباره نقطة تفرق بيننا بدلا من أن تكون إحدي النقاط الكثيرة التي تجمعنا, وما أكثرها, وما أحلاها! صديقتي التي كسبت معرفتها العظيمة الأستاذة فاطمة المعدول أرسل لي رسالة صباح يوم شم النسيم يوم الاثنين الماضي أكدت لي إن المصري اللي علي حق ما يقولش لشم النسيم لأ! وجاء في الرسالة: مازال هذا الشعب العظيم يحاول أن يظل وحدة واحدة, وأن يثبت أن جذوره فرعونية, وأنه سيعيش أبد الدهر نسيجا مغزولا من الفرعونية والقبطية والإسلامية, فأهلا وسهلا بشم النسيم يوما جميلا وعزيزا. فيفا شم النسية رغم أنف الحاقدين والمتحذلقين ومدعي التدين وكارهي المصريين.. كل المصريين! أبو الليف وأقرانه نعيش هذه الأيام عصرا ذهبيا في بيزنيس صناعة النجوم, فهو بيزنيس عالمي, هناك من يخوضه بناء علي دراسة وعلم متأنيين, ومنهم من يقفز فيه قفزات عنترية بهلوانية تعتمد علي الفكاكة والفهلوة. والغريبة أن كليهما ينجح ويفرز نجوما ينظر إليهم المجتمع باعتبارهم نماذج يحتذي بها, حتي ولو كانوا في واقع الأمر نماذج يجب ألا تحتذي من الأصل. ولكن كلما كانت الجهة المسئولة عن هذه الصناعة محنكة وذكية, كلما جعلت من النجم المصنوع نموذجا يحتذي بغض النظر إن كان يستحق ذلك أم لا. وسبب هذه الكلمات هو النجم أبو الليف الذي فوجئت به يقفز إلي غرفة جلوس بيتي كلما أدرت جهاز التليفزيون. فهو النجم الساطع الذي استضافه برنامج مصر النهادرة وكذلك90 دقيقة والقاهرة اليوم وغيرها من البرامج التي اسهمت سواء كانت تدري ذلك أو لا تدركه في سطوع نجمه أكثر وأكثر. وبصفة مبدئية, أعترف أنني وجدت نفسي منجذبة لسماع حديثة وكذلك أغنياته. هو بالطبع يقدم سلعة جديدة متفردة, وهذا هو السر, لكن السؤال هو هل يمكن أن يصمد لفترة مابعد الانبهار الأولي أم لا؟ ويمكن تطبيق الكلام نفسه علي النجوم في كل مكان, دعاة دينيون, خبراء تغذية, دجالون, محللون سياسيون, طهاة.. إلخ. وهذا يعني أن صناعة النجم تختلف شكلا وموضوعا عن وجود شخص ما في مكان ما في وقت ما يستطيع أن يثبت أنه قادر علي أن نتذكر أغنياته أو أفلامه أو ألحانه بعد سنوات من صدورها( إذا كنا نتكلم في مجال الفن). ويمكن القول إننا نعيش أزهي عصور بيزنيس صناعة النجم, لكننا نعيش أحلك عصور اكتشاف النجم الحقيقي فنيا ودينيا واقتصاديا واجتماعيا وكمان سياسيا. مجرد فكرة للتأكل. البحث عن الثقة لا أعتقد أن أحدا يتمتع بتفكير سليم وعقل راجح يشجع الهرج والمرج في الشارع. ولا اعتقد أن أي مصري, بغض النظر عن مستواه العلمي أو الأقتصادي أو الاجتماعي يمكن أن يشجع اختلاط الحابل بالنابل, ولكن الهلع الذي يصيب السلطات الأمنية كلما قررت جماعة أو مجموعة أن تعبر عن سخطها تعبيرا علنيا شارعيا مبالغا فيه بعض الشيء, أو علي الأقل ألا يشعر المواطن بهذا الخوف لأنه شعور غير صحي. مرة أخري هناك حاجة ماسة إلي( لن أقول اعادة لأنها لم تكن موجودة أصلا) ولكن سأقول زرع قدر من الثقة بين المواطن والسلطات لاسيما الأمنية. فطالما الأمن يعتقد ان المواطنين هم قلة منحرفة من البشر ينبغي السيطرة عليهم, ومادام المواطنون يؤمنون بأن مهمة الأمن الرئيسية هي التنكيد عليهم وإهانتهم. كثير من الأمور في مصر يمكن أن يستوي بقليل من الثقة. قضية البمية الحديث مع الناس العاديين أسهل وأصدق وسيلة للتوصل إلي مفاتيج المصريين صحيح أن الدراسات والأبحاث والاستقصاءات كثيرا ما تسهم في معرفة ما يجول في خاطر الناس, وما يعانون منه من مشكلات, وما يحلمون به, لكن مجرد التحدث معهم بعيدا عن استمارات الاستطلاع, وكاميرات التليفزيون, وميكروفونات الإذاعة يعطيك صورة أكثر واقعية. حديث طويل استغرق نحو ساعة وربع وتكلف حوالي45 جنيها قيمة ما أشار اليه عداد التاكسي الأبيض الجديد لكن قيمته لا تكيل بالمال كالعادة كانت البداية مع سيدة تقود سيارة وتحاول بكل ما تملك من قوة وعزيمة ومثابرة أن تنتقل من اليسار إلي اليمين حاولت مرات بالإشارة, ومرات ومرات بذراعها لكن كالعادة فإن قادة السيارات ما أن يلمحوا اشارة تعكس رغبة صاحبها( أو بالأحري صاحبتها) في تغيير الحارة التي تمشي فيها يصابون بانهيار عصبي ويبذلون كل ما في وسعهم لمنع القادة من تحقيق المراد وما ان يحققوا غايتهم ويمنعوها من تحقيق غايتها الخبيثة حتي يعودوا إلي هدوء أعصابهم ولا مانع من التاكد من خلال مرآة السيارة أنها مازالت تعاني مغبة قرارها الأحمق حتي يهنأوا بشعور النصر والفوز. وجد السائق هذه السيدة وقد أعطته إشارة في محاولة للمرور أمامه, فتعصب وأطلق العنان لآلة التنبيه, فحاولت مجددا من خلال النافذة التي أخذت تشير من خلالها بيدها معبرة عن رغبة صادقة في أن يسمح لها بالمرور, فسبها, وفي المحاولة الأخيرة والتي حاولت ان تسرع قليلا حتي تلحق بالدوران للخلف الذي كانت تبتغيه, لم يجد السائق الذي جرح كبرياؤه, وأصيبت رجولته بجرح غائر سوي ان ينصحها بأعلي صوته بأن عليها أن تعود إلي بيتها وتكتفي بدورها في تقميع البمية وغسيل الصحون. ولأن آخر تجربة خضتها في سيارة أجرة للدفاع عن سيدة تعرضت لإهانات مماثلة كانت غير سارة, فقد قررت أن أطبق فمي وأعد من واحد لعشرة آلاف حقنا للدماء والأعصاب. ورغم أنني نجحت نجاحا غير معهود في أن أصل في العد إلي رقم20 ألفا, إلا أن السائق ظل يتحدث دون انقطاع عما تسببه النساء من مشكلات, وضغوط, ومآس ويبدو أن صمتي تم تفسيره علي اعتبار انه تضامن ضمني معه في وجهة نظره, فاستفاض وأسهب. حاجة تقرف هما سبب المصايب كلها من يوم ما اتعلموا واشتغلو وهما ممروعين المرعة السودة دي قال إيه عايزينهم يبقوا قضاة كمان! مصيبة ما فاضلش غير إنهم ييجوا يسوقوا التاكسيات ونقعد إحنا في البيت نقمع بمية. ورغم أن معرفة سبب تمسكه بقضية البمية ظل يلح طيلة الطريق, إلا أنني لم أسأله خوفا من أن يفلت لساني بكلمة أو عبارة تفضح انتماءاتي النسوية المؤمنة تماما بأن البنت زي الولد, ما هيش كمالة عدد, وأن السيدات قادرات علي القيام بما يقوم به الرجال من مجهود ذهني, وأن محاولات تقييدهن وزرع شعور عدم الثقة فيهن ما هو الا شعور بالخوف لدي الرجال( أو بعضهم علي الأقل) من أن تكتشف المرأة قدراتها الحقيقية وتكتسب الثقة في نفسها وتهدده بشكل أكبر في مجال عمله, وفي شعوره بأنه وحده القادر علي أن يفعل ما يفعله. المهم, هذا ليس موضوعنا, موضوعنا أن ما يجول في خاطر الناس ليس هو بالضرورة ما يقولونه علي شاشات التليفزيون أو صفحات الجرائد, سلبا أو ايجابا فحين يسأل التليفزيون المصري مواطنا مطحونا ومسحولا عن رأية في انجازات الحكومة, فأغلب الظن أن الإجابة ستأتي غالبا في صورة إشادة بالإنجازات المهولة ودعوات لتوفيق الوزراء في مهمتهم الصعبة وإذا توجهت كاميرا أحد برامج التوك شو الليلي الفضائي علي القنوات الخاصة إلي المواطن نفسه ووجهت له السؤال نفسه فإنه غالبا ستدور الإجابة في سياق:: كله زفت, وماحدش حاسس بينا, والحكومة نايمة علي ودانها, وربما يورينا فيها يوم فالمواطن علي درجة بالغة من الذكاء, ولديه استعداد فطري لتقديم الدور الذي تمليه عليه اللحظة اسأله بعيدا عن الكاميرا أو جهاز التسجيل, وستحصل علي الصورة دون رتوش. وأعود إلي السائق الذي عبر بكل تلقائية عن موقفه تجاه النساء اللاتي يعتقد أنهن يزاحمنه في أكل عيشه هذا هو رأيه الذي غالبا سيأخذ منحني آخر حين تسأله الست المذيعة التابعة للتلفزيون الرسمي للدولة عن رأيه في القفزات الإيجابية التي حققتها المرأة المصرية, ومنحني ثالثا لو سألته مراسلة90 دقيقة أو العاشرة مساء عن القضية ذاتها ولكن دون كلمة إنجازات.الحاجة إذن ماسة لمعرفة رأي الناس بجد.