ما أكتب عنه اليوم لا تعرف له تسمية متفق عليها, سواء بين مستخدميها أو بين خبراء الإعلام. لكنها أصبحت ظاهرة منتشرة في قري ومدن مصر, وفي جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية والتعليمية. انها ظاهرة الوصلة وتتلخص في قيام أحد المواطنين بالاشتراك باسمه في خدمة الإنترنت أو باقة لاحدي الفضائيات المشفرة, ثم يقوم بتوصيل هذه الخدمة إلي شقق الجيران مقابل اشتراك شهري زهيد يتراوح بين عشرة جنيهات وثلاثين بحسب المنطقة التي يقدم فيها خدمته ومستوي دخول المتعاملين معه. والوصلة بهذه الطريقة تحقق مكاسب للشخص مزود الخدمة المحلي, وللمشتركين معه, لكنها تظل عملا غير مشروع من الناحية القانونية, حيث تتيح لغير المشتركين في خدمة الإنترنت والقنوات المشفرة الاستفادة من تلك الخدمة دون تسديد رسوم الاشتراك للجهات المصرح لها بتقديمها. ويثير هذا السلوك مشكلات اخلاقية وربما دينية عديدة, الا أنها ورغم محاربة السلطات المختصة تلاقي رواجا متزايدا بين كثير من المصريين, لأنها تمكنهم من الحصول علي خدمات تليفزيونية تبدو مهمة من وجهة نظرهم بأسعار زهيدة لا تتناسب مع ثمنها الأصلي. العامل الاقتصادي قد يبدو مقنعا لتفسير هذه الظاهرة, لكنه غير كاف فهناك أسباب أخري لعل أهمها: 1 أتاحت الوصلة خدمة الإنترنت لاعداد كبيرة من المصريين ووسعت الخيارات المتاحة ربما لعدة ملايين من الأسر المصرية لمشاهدة قنوات فضائية, تقدم مضامين مختلفة عما تقدمه القنوات الأرضية أو القنوات الفضائية المفتوحة, وبالتالي تبدلت أولويات المشاهدة لديهم وارتفعت الضغوط التنافسية علي القنوات المصرية. 2 إيمان كثير من المصريين بالحق المشروع في الوصول للإنترنت أو مشاهدة مضامين تليفزيونية متميزة خاصة مباريات كرة القدم الأجنبية بغض النظر عن مشروعية الوسيلة, ولعل ما يعزز هذا الإيمان ارتفاع أسعار هذه الخدمات في حال الحصول عليها بالطريق الشرعي, ولا ريب أن هذا الإيمان وما يرتبط به من سلوكيات يعكس ثقافة الفهلوة التي صارت أحد المفاهيم الأساسية في تفسير سلوكياتنا كمصريين. 3 وجود نوع من الرقابة علي ما يبث في معظم شبكات الوصلة, حيث يتحكم مزود الخدمة المحلي في كل ما يبث من قنوات وكذلك مواقع الإنترنت, وغالبا يطمئن الجيران المشتركون لاختيارات مزود الخدمة المحلي وانها لن تتجاوز الآداب العامة والقيم المصرية المحافظة. 4 تطور شبكات الوصلة خاصة في الريف بحيث تحولت إلي محطات تليفزيونية محلية, تبث بعض الإعلانات والمواد المحلية التي ينتجها ويبثها مزود الخدمة وتغطي أفراح الحي والاحداث المهمة في القرية أو الحي, ولاشك أن أغلب هذه المواد متواضعة من الناحية الفنية لكنها قريبة إلي الناس كما توسع من الحريات والمجال العام بعيدا عن سيطرة ورقابة الحكومة. والمشكلة ان الخبراء والباحثين الإعلاميين لم يهتموا بظاهرة الوصلة وتأثيراتها, بل تعالوا عليها واكتفوا بإدانتها ومن ثم استمرت الفرضيات والتصورات التقليدية بشأن تفضيلات المشاهد المصري هي البوصلة التي توجه الخبراء والباحثين والمعلنين رغم عدم دقتها. والغريب أن كثيرا من مسوح المشاهدة وبحوث الإعلام لا تسأل المشاهدين عن الوصلة, وإذا سألتهم فانهم يحصلون غالبا علي إجابات غير دقيقة لمعرفة المشاهد بعدم قانونية الوصلة, وحرصه علي انكار استخدامه لها أو حتي عدم معرفته بها. هكذا صارت هناك فجوة معرفية وسلوكية بين اعداد المشتركين قانونيا في القنوات المشفرة والإنترنت وبين اعداد المستفيدين منهما, فمن غير المنطقي التسليم بان اعداد المشتركين في خدمة الإنترنت تصل إلي12 مليونا تقريبا, لان بعض هؤلاء المشتركين يقدمون الخدمة لغيرهم من سكان العمارة أو الحي, وأغلبهم لا يسعون لتحقيق الربح بل لتقليل التكلفة الشهرية التي يدفعها. ومن الصعب تقدير اعداد المستفيدين من وصلة الإنترنت. واعتقد ان الفجوة بين المشتركين والمستفيدين مرشحة لمزيد من الاتساع طالما ظلت أسعار تلك الخدمات مرتفعة مقارنة بالمستوي العام للدخول, وهنا قد لا تفيد إجراءات الملاحقة في الحد منها, بل ينبغي التفكير في حلول غير تقليدية للخروج من اشكاليات الوصلة. والمهم الآن ادخال الوصلة وتأثيراتها ضمن أولويات اهتمام الخبراء الإعلاميين والباحثين عند التخطيط للبرامج التي تقدمها القنوات الأرضية أو الفضائية المصرية, وكذلك عند القيام ببحوث للمشاهدة ومن الضروري اجراء مزيد من الدراسات العلمية عن أسباب وتأثيرات ظاهرة الوصلة وتأثيراتها, والمفارقة ان البحث هنا سيتناول ظاهرة غير مشروعة قانونيا لكنها تلقي قبولا اجتماعيا وثقافيا متناميا, كما ان استخدام وسائل بحثية تقليدية كاستمارة البحث أو الاعتماد علي الاحصاءات الرسمية والافتراضات التقليدية, كل ذلك سيقود إلي نتائج بلهاء وغير دقيقة. وبالتالي المطلوب التفكير في أدوات بحثية جديدة أكثر اقترابا من المشاهدين البسطاء وأكثر فهما للظاهرة بدون استعلاء أو اصدار أحكام متسرعة بالادانة.