من أهم دروس الانتخابات الرئاسية, أن محاولة كسب تأييد كل الطبقات والفئات تؤدي إلي الخسارة, فقد أفرز مناخ الثورة كتلا تصويتية جامدة تنتخب من يمثلها سياسيا واجتماعيا بوضوح, ومن دون لف أو دوران. لذلك خسر عمرو موسي وأبو الفتوح لأن كلا منهما حاول استرضاء الجميع, بينما نجح مرسي وشفيق وحمدين لأن كلا منهم امتلك خطابا محددا, نجح في استقطاب كتلة تصويتية وجدت في خطاب كل مرشح ما يرضيها. الخائفون والفلول وجدوا في خطاب شفيق طوق النجاة, بينما شباب المدن والشرائح الدنيا والمتوسطة من الطبقة الوسطي راهنوا علي حمدين صباحي, ووقف الإخوان وكثير من السلفيين إلي جانب مرسي أملا في تحقيق الشريعة الإسلامية, لكن قواعد اللعبة تغيرت في الجولة الثانية, حيث تعمق الانقسام والاستقطاب, وبالتالي طور مرسي خطابه وقدم نفسه باعتباره مرشح الثورة, وسعي لكسب كل شركاء الثورة من ليبراليين, وقوميين, ويساريين. هكذا اختلف خطاب مرسي عن الجولة الأولي, فتجاوز الخطاب الإخواني التقليدي نحو خطاب أكثر ثورية وانفتاحا ورغبة في التعاون مع كل القوي السياسية, لكن خطاب مرسي تغير للمرة الثانية بعد وصوله لكرسي الرئاسة فأصبح خطابا تصالحيا يتقرب من المجلس العسكري ومؤسسات الدولة العميقة بالدرجة نفسها التي يتقرب بها من أسر الشهداء والفقراء والمهمشين والثوار, وسعي الخطاب لكسب تأييد كل الطبقات والفئات, بما في ذلك الفلول وأنصار شفيق. أتفهم تحولات خطاب مرسي, المرشح ثم الرئيس, وأتعشم أن يطور أفكاره ومواقفه, وأؤيد تماما سعيه لاستعادة الوفاق الوطني بعد معركة انتخابية شرسة, وانقسامات في المجتمع, لكن المصالحة والوفاق الوطني لهما شروط ومعايير كشفت عنها عديد من تجارب التحول الديمقراطي في إفريقيا وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية, ولابد من الاستفادة من تجارب هذه الدول, واحترام الشروط والإجراءات التي تحقق المصالحة والوفاق الوطني, ولعل أهمها: 1 عدم التفريط في أهداف الثورة أو المساومة عليها, مما يعني ضرورة تطهير أجهزة دولة المخلوع, ومحاسبة الفاسدين في العهد السابق. 2 تفكيك تحالف رأس المال مع السلطة والقضاء علي احتكارات رأسمالية المحاسيب ونفوذهم السياسي والإعلامي, علما بأن هؤلاء المحاسيب لا يزيد عددهم علي بضع عشرات يتلاعبون بمصير الوطن ومستقبله. 3 تحقيق العدالة الانتقالية من خلال تشكيل لجان تحقيق مستقلة, وإجراء محاكمات عادلة وسريعة لكل المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان, أو المتورطين في جرائم فساد وإفساد, وهنا لابد من تأكيد أن المصالحة الوطنية لا تعني عدم التحقيق في قضايا رموز النظام القديم, وعدم تقديمهم للمحاكمة, فلا مصالحة أو وفاقا وطنيا بدون تطبيق القانون. 4 مطالبة رموز النظام السابق من رجال أعمال وقيادات سياسية وتنفيذية, بتقديم نقد ذاتي علني, مع تقديم اعتذار واضح وصريح للشعب علي ما ارتكبوه من أخطاء لا تستوجب المحاكمة, مثل تزييف وعي الجماهير, والإذعان لمخطط التوريث, وعدم مقاومته, علاوة علي عدم التصدي لمنظومة الفساد. 5 الاعتماد علي أساليب قاناونية وسلمية, من بينها التفاوض والحوار مع رموز النظام القديم من أجل عزلهم سياسيا وتقليص نفوذهم المادي والمعنوي في المجتمع, وهنا من الضروري لابد من اعتماد آليات الإفصاح والمكاشفة والفضح عبر وسائل الإعلام, والمجتمع المدني. 6 أن يبادر الرئيس مرسي بتشكيل فريق رئاسي ووزارة ائتلافية, وعلي قاعدة مشاركة كل فصائل ورموز الثورة, وعدم إشراك كل من ثبت تورطه في دعم النظام السابق سياسيا, أو تقلد منصبا قياديا في مؤسسات دولة مبارك, ويمكن فتح حوار مجتمعي للاتفاق علي المقصود بالمنصب القيادي. 7 أن تعمل مؤسسة الرئاسة بشكل سريع وجاد لتحقيق العدالة الاجتماعية, من خلال تطبيق الحدين الأدني والأعلي للأجور, والضرائب التصاعدية, ومحاربة الفساد, وضمان الإفصاح والشفافية. تطبيق الشروط السابقة ليس عملية صعبة أو مثالية, فقد سبقنا إليها عدد من الدول, وحققت نجاحا كبيرا في الأرجنتين وتشيلي وجنوب إفريقيا, وأعتقد أن تطبيق إجراءات العدالة الانتقالية والمصالحة لن يؤثر علي مناخ الاستثمار, أو يعطل عجلة الإنتاج, كما يتوهم البعض أو يحاولون إثارة خوفنا, بل علي العكس فإن تطبيقها يؤكد احترام كل الأطراف للقانون, ويحقق مصالحة وطنية حقيقية تدعم الاستقرار السياسي, مما يجذب الاستثمار الأجنبي. علي الرئيس مرسي أن يراعي هذه الشروط في سعيه المشروع لتحقيق المصالحة الوطنية, وعليه أن يترجم دعوته للمصالحة الوطنية إلي قوانين وإجراءات, وليس مجرد خطب وعبارات تهدف لكسب ود معسكر الثورة, والثورة المضادة, فالثورة المصرية ليست وجهة نظر ينضم إليها البعض ويختلف معها البعض, لكنها ممارسة اجتماعية صنعتها أغلبية الشعب, وبذلت من أجلها تضحيات هائلة, ولابد من أن تفرض أهدافها وقيمها علي الجميع, لمصلحة تغيير المجتمع ونهضته.