كنا وأمثالي نظن أننا كنا نناضل النظام البائد معتقدين أن نضالنا كان لاستكمال مشروع مدنية الدولة التي أفنينا فيها العمر ودفعنا الثمن تلو الثمن وقد بات علي وشك التحقق إذا ما تخلصنا من استبداد النظام بالإصلاح أو الثورة, ومنا من تبني منهجا إصلاحيا ومنا من تبني منهجا ثوريا, ولم يكن أكثرنا تشاؤما يظن بأن هذا النضال الطويل سوف يضعنا في النهاية علي أعتاب دولة دينية تطل علينا, وديمقراطيا. ومنا من انتبه مبكرا إلي الفخ الذي سقطت فيه ثورة يناير التي ظهر أنها تختطف أولا من شباب كان كل نضالهم أن خرجوا في يوم غاضب فآزرهم شعب بأكمله مضوا معا بضعة أيام في ميدان التحرير حتي سقط النظام الذي لم يرده أحد, فإذا بهم وقد حولهم إعلام مشكوك في نواياه إلي أبطال فصدقوا أنفسهم وصدقناهم ورفعناهم فوق الأعناق آملين في جيل مدني جديد ظننا أنه علي الأقل يحترم نضالنا السابق, وإذا بنا نكتشف رويدا رويدا أنهم بلا ذاكرة حقيقية ولا وعي بتاريخ وطنهم المدني في معظمه شكلا أو موضوعا. وليت الأمر توقف عند هذا, فقد اختطفها منهم لاحقا سياسيون قدامي وجدد تصدروا المشهد السياسي والإعلامي بصفتهم مناضلين قدامي صدقا أو كذبا واكتشفنا لاحقا أيضا أنهم هم أيضا لا يعون ما تثقفوا به وأصبحوا مجرد ألسنة ثرثارة تردد خطابا فاشيا مليئا بالإقصاء والانتقام والفكر المكارثي التفتيشي وصل إلي حد تخوين الجميع بل وتخوين فصيل سياسي ديني هام كان له الفضل الأساسي في نجاح الثورة, ليذهب خليط الشباب والقدامي في جانب التهييج والإثارة في ميدان التحرير وكل جهدهم ونضالهم منصب في التفكير في اسم كل مليونية من المليونيات المتتالية, وذهب الفصيل الديني الأوعي سياسيا واجتماعيا وتنظيميا إلي الشارع الحقيقي في النجوع والقري والأقاليم والعشوائيات, فكان من الطبيعي أن ينسحق الخليط الأول أمام الفصيل الثاني برلمانيا, ما أن أفاق الخليط من صدمة انسحاقه لم يفعل شيئا يذكر إلا التجييش لمليونيات عنيفة تخون الجميع مرة أخري وعلي الأخص الفصيل الديني الذين رأوا فيه خطرا علي مدنية الدولة ورأوا فيه خداعا لأنفسهم كالعادة حليفا للمجلس العسكري الحاكم انتقاليا, فشنوا هجومهم علي الجميع حتي خسروا الجميع, ولم يسعفهم عملهم كالعادة, بل كان من حسن طالعهم وطالعنا سوء عمل الفصيل الديني وأداءه الهزيل في البرلمان الذي أضعف شعبيته, كما كشف عن بوادر التناقض والشقاق بينه وبين المجلس العسكري نصير الدولة المدنية بالطبيعة وبالتوجه وبالتاريخ, وبدلا من أن يستغل هذا الخليط العشوائي الهزيل الفرصة لدعم صلاته بالعسكري إذا به ينجرف نحو موجة هجوم غير مسبوقة علي مرشح الدولة المدنية الذين رأوا في خلفيته العسكرية امتدادا لخلافهم المفتعل مع العسكري كما رأوا فيه أو أرادوا أن يروا فيه امتدادا للنظام السابق في مزج مخل بين القيمة والأداء, لم يفصلوا فيه بين مدنية فاسدة سابقة وبين قيمة مدنية منظورة كان يحب أن يدافعوا عنها لا أن يهاجموها, فظهر هذا الخليط العشوائي بمظهر مناف لما يحمله من قيم اجتماعية وأنماط حياتية تعودوا ودرجوا عليها وهي قيم تسع الجميع بما فيها الديني, وإذا بهم يبطلون أصواتهم ويقاطعون بل ويطففون لصالح الديني, وإذا بنزوتهم الباحثة عن الضوء والشهرة والبطولة والمزايدة تتحول إلي كابوس أمام أعينهم باعتلاء الديني رأس الدولة, ليخرجوا علينا بعدها في مزايدة جديدة اسمها التيار الثالث يسعي للنضال من أجل المدنية التي كانوا هم السبب في ضياعها وإدخالنا جميعا في نفق تعريف المدنية التي يراها الديني أيضا مدنيته, ويريد الطرفان منا أن نصدقهما, فهل تصدق يا عزيزي القارئ المدني أيا منهما وقد أعادنا كلاهما إلي نضال ما قبل الثورة, الفرنسية لا المصرية؟