[المبطلون والمقاطعون لا يبنون أوطانا ولكن يخربونها] حسن الاحتيار هنا يتطلب من كل مصري أن يصوغ لنفسه معايير موضوعية للحكم علي المرشحين الرئاسيين, وأن يسأل نفسه بكل أريحية وضمير ماذا يريد لنفسه في السنوات العشر المقبلة وماذا يريد لأبنائه واحفاده في السنوات الثلاثين المقبلة؟. مبطلون.. مقاطعون.. لا للفلول.. لا للاستبداد الديني.. لا للفاشية العسكرية.. وعبارات أخري تكاثرت في الاسابيع القليلة الماضية كلها تعبر عن غضب شديد ورفض لنتيجة المرحلة الاولي للانتخابات الرئاسية لانها لم تأت بمرشح ثوري وفق شروط معينة. الأكثر من ذلك هناك من ينذر بالمظاهرات والفوضي أيا كانت نتيجة الانتخابات. وفي الخلف من ذلك مشهد قانوني ودستوري مفتوح علي احتمالات عديدة بشأن مصير البرلمان الحالي وما يعرف بقانون العزل واحتمال تطبيقه علي الفريق شفيق, ولكل من هذه الاحتمالات مؤيدون ومعارضون, وكل منها يوجه البلاد نحو مخرج معين إن ارتضاه البعض فسوف يلعنه آخرون. المشهد المصري بتفاصيله وعمومياته يرسم ملامح معركة كبري حول هوية الوطن ومصيره لسنوات طويلة مقبلة تستخدم فيها أنواع مختلفة من الأسلحة الانتخابية الثقيلة تمتزج فيها الأسس القانونية والدستورية بالمواجهة بين سلطتين كبيرتين وهما التشريعية والقضائية علي نحو ما رأينا في تصريحات نواب الشعب الغاضبة وما قابلها من تصريحات أكثر غضبا من رموز قضائية رفيعة المستوي. كما تختلط في تلك المواجهة الانتخابية الوعود بالتهديدات, والآمال المشروعة بالقلق الطبيعي, والثقة المفرطة بالنفس بالسلوك المبالغ فيه. لكن الأخطر من كل ذلك هو الشعور العام لدي شرائح عديدة من المصريين بأن البلد مقبلة علي كارثة كبيرة سواء تمت الانتخابات بين المرشحين المعروفين حتي الآن, أو أعيدت بين من يطرحون أنفسهم باعتبارهم الممثلين المخلصين للثورة ولا بديل لهم. والسؤال من السبب وراء ذلك العبث الطاغي؟, وهل يتحمل المجلس الأعلي وحده المسئولية كما يصر ثوريون كثر, وهو الذي أدار انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة وشفافة لم تعرفها مصر من قبل, ام أن الواقع يقول ويثبت أن جميع القوي السياسية شريكة في صنع الأزمة والتوتر واللا يقين الراهن بداية من الثوار أنفسهم ورموزهم الكبيرة جدا متضخمي الذات وأصحاب التقديرات الخاطئة, ومرورا بالأحزاب التي تشكلت بعد الثورة ونهاية بالأحزاب القديمة التي فقدت نفسها كليا أو جزئيا. ثم ماذا عن الناشطين السياسيين والرموز الفكرية والاعلامية التي طرحت نفسها ممثلة للثورة المستمرة دائما والمشتعلة بلا هوادة والتي تحرق كل شئ من مراحل ومؤسسات وقوانين وتاريخ وشخصيات وأحكام قضائية, ولم تراع حقوق الناس البسيطة في الحياة وفي استيعاب متدرج لحجم التغيرات الجارية, ومن ثم.. حين جاءت لحظة الاختيار الحرة وجدوا أنفسهم بلا رصيد لدي الشعب, وفي أحسن الأحوال نقص رصيدهم الذي كان كبيرا جدا قبل عام إلي فوق الصفر بدرجات محدودة. إن تحديد المسئولية هنا لفشل من يصفهم البعض برموز الثورة ومستحقي الرئاسة الشرعيين من شأنه أن يرسم معالم الطريق للمرحلة المقبلة. كما أن تحديد المسئولية هنا بالنسبة للفشل في تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وما أوضحه من نهم بلا حدود لحزبين بذاتهما للسلطة والتمكن وإقصاء الآخر المختلف هو أمر لا مفر منه, حتي تستقيم المعايير والموازين وينتهي الجدل العقيم حول من سيقود مصر إلي بر الأمان ومن سيقودها إلي غير ذلك. وبدون تهوين من حجم المخاطر المنتظرة, فإن المواجهة الحقيقية لهذه المخاطر تكمن في القدرة علي الاختيار الصحيح بين البديلين الرئاسيين المطروحين حتي اللحظة وليس في الانخراط في أوهام وألاعيب قانونية وإدارية محكوم عليها بالفشل التام. وبدون تهويل أو مبالغة فإن حسن الاختيار بين البديلين الرئاسيين هو الكفيل والضامن لانتهاء المرحلة الانتقالية الراهنة إلي مرحلة أخري تقودها مؤسسات مدنية منتخبة يمكنها ان تتخطي الصعاب بثمن مناسب. حسن الاحتيار هنا يتطلب من كل مصري أن يصوغ لنفسه معايير موضوعية للحكم علي المرشحين الرئاسيين, وأن يسأل نفسه بكل أريحية وضمير ماذا يريد لنفسه في السنوات العشر المقبلة وماذا يريد لأبنائه واحفاده في السنوات الثلاثين المقبلة؟. هل يريد لهم الانفتاح علي العالم من موقع الثقة بالنفس والكفاءة في الأداء والعطاء للإنسانية, أم يريد لهم أن يقعوا تحت الحصار واللايقين والصراع الدائم في الداخل والخارج معا؟, وهل يريد لأبنائه وأحفاده أن يذكروا اسهامه الذاتي في الاختيار الصحيح للوطن عبر وضعه علي أول خطوة نحو ديموقراطية وتعددية وانتقال سلطة سلس وطبيعي بعد كل فترة دستورية, أو أن ينسوا ما قام به من خطأ جسيم في حق وطنه ومجتمعه بإهماله التعددية والتوازن في سلطات الدولة ومؤسساتها؟ باختصار نحن أمام أمر جلل, وليس أمرا شخصيا تنفع فيه معايير الحب والكراهية, أو مشاعر الغضب والعواطف الجياشة, وانما ينفع فيه الاختيار العقلي المنطقي والصحيح النافع الذي يضمن تعددية في بنية السلطة ويحول دون توحدها في هيكل حزبي واحد كما كان الأمر من قبل ثورة25 يناير. وينفع فيه ثانيا اختيار رأس للدولة يغنيها عن الوقوع في مغامرات غير محسوبة في الداخل أو في الخارج, وينفع فيه ثالثا من يمكنه اتخاذ القرار الصائب في اللحظة المناسبة دون الرجوع إلي هياكل ذاتية فوقية أخري لا علاقة لها ببناء الدولة أو مؤسساتها الرسمية. اللحظة الراهنة هي لحظة فارقة بامتياز تتطلب المشاركة الايجابية من كل مصري, ولا تتطلب المقاطعة أو إبطال الأصوات. فالثورية لا تعني العدم أو العزوف عن إعمال العقل أو انتظار الانتصار الذي قد يأتي بالصدفة أو بمجرد الشعارات الزاعقة. فالدول لا تبني بالامنيات والرفض, ولكن بالتخطيط والوعي والأفعال, وقبل ذلك بالصدق مع النفس.