أما التربية العمومية فهي ما يتعلمه الذكور والإناث في المكاتب والمدارس وفي سائر مكاتب المعارفظني أن هذا المناخ الداعم للمعرفة والعلم, التعليم والعلم ظل يتقدم بشكل مطرد إلي أن حدثت النكسة في عام1967 حسنا فعل السيد وزير التربية والتعليم, فالحملات التفتيشية المفاجئة التي يقوم بها والتي تعرض شاشات التلفزيون أجزاء منها تكشف بوضوح إلي أي مدي تدهور وعينا وإيماننا بالتعليم. والتدهور يعني أنه مر علينا زمن كانت لدينا فيه عملية تعليمية منضبطة ومتوافقة مع عصرها ثم نالها العطب والمرض علي مدي عشرات السنين إلي أن أصبح ما نشاهده الآن وقد تحولت المدارس والجامعات إلي منافذ بيع وتوزيع الشهادات التي لا قيمة لها لتصبح هذه الشهادات هي كل ما يرتجيه الناس مما تبقي من وزارة التربية والتعليم. و تجربة مصر في مجال التعليم الحديث كانت واحدة من أغني تجارب التعليم في العالم, وهي تجربة طويلة تمتد علي حوالي قرن ونصف من الزمان, وهي تجربة كبيرة تكاملت فيها عناصر النجاح, بداية من المسئول صاحب الرؤية, والمهني الجاد والمؤمن بقضيته, وخلفهما المجتمع الواعي الذي أدرك اهمية التعليم لنهضة الأمم وأول مسئول صاحب رؤية وفلسفة عن التعليم في مصر هو الشيخ رفاعة الطهطاوي, وبلغة عصره كان ناظر قومسيون ديوان المعارف. وتبين لنا إنجازات الطهطاوي وكتاباته ما الذي يمكن أن يعود علي المجتمع من نفع عندما يكون المسئول الأول عن التعليم مدركا للهدف من العملية التعليمية, وعارفا بالواجب الذي ينبغي عليه القيام به. ففي كتابه' المرشد الأمين للبنات والبنين' الذي صدر عام1872, يحدد الطهطاوي نظريته عن التعليم كما يحدد استراتيجيته لتحقيق هذه النظرية, وطبقا لهذه النظرية يري الطهطاوي أن البنات والبنين بحاجة للتربية علي مستويات ثلاثة هي البدنية والدينية والعمومية. وأما التربية العمومية فهي ما يتعلمه الذكور والإناث في المكاتب والمدارس وفي سائر مكاتب المعارف التي يجتمع فيها للتعليم عدد مخصوص من المتعلمين, وهذا القسم الثالث من التعليم العمومي هو عام لجميع الناس يشترك بالاشتغال به والانتفاع به أبناء الأغنياء والفقراء, ذكورهم وإناثهم, وهو يتكون من التعليم الأولي وهو تعليم أوليات القراءة والكتابة والحساب, ثم التعليم الثانوي الذي درجته أعلي مما قبله ولا يلتفت له الأهالي فينبغي للحكومة المنتظمة ترغيب الأهالي وتشويقهم فيما يخص هذا النوع, فهو ما يكون به تمدين جمهور الأمة وكسبها درجة الترقي والحضارة والعمران. الطهطاوي إذن يري أن التعليم هو سر تمدين الأمة, وينبغي إتاحته للجميع فقراء وأغنياء, وينبغي علي الحكومة أن تسعي لترغيب الناس فيه وليس ترهيبهم منه إن كانت تريد التقدم. أثمرت بذرة الطهطاوي وأنتجت, ففي عام1911 اصدر وكيل مدرسة المعلمين الخديوية السيد علي بك عمر كتابا جعل عنوانه' هداية المدرس' كان السيد علي معنيا بنوع المدرس ودوره في العملية التعليمية ومن ثم اتجه في كتابه نحو توضيح المهنة للمتقدمين لها, وينبه المعلم فيقول' ففي صناعة التدريس لا يقال أن المعلم يدرس إلا إذا كان التلميذ يتعلم حقيقة, ولا التلميذ يتعلم حقيقة إلا إذا كان المدرس يعلم متبعا أصول التدريس. وليست قيمة التدريس في أن يتكلم المدرس مع التلاميذ أو يلقي عليهم محاضرة أو يسألهم أسئلة أو يوضح لهم غامضا مهما بلغت درجة النشاط الذي يبذله في ذلك ولكن قيمته في مقدار ما يتعلمه التلميذ.' وخلف الجميع كانت هناك طبقة الأغنياء والطبقة الوسطي الواعية, فعندما تراجعت همة الدولة في مجال التعليم بعد الاحتلال البريطاني تقدمت النخب المتعلمة لتنشئ الجمعيات الأهلية التي أنشات المدارس, ففي الفترة بين عامي1882 و1919 أنشأت الحكومة ثلاث مدارس فقط بينما أنشأت الجمعيات الأهلية عشرات من المدارس, وعندما قامت ثور1919 تضاعفت الهمم في المدارس الحكومية والأهلية علي السواء. كما أصدرت النخبة المثقفة المجلات العلمية مثل المقتطف التي كانت تناقش العلوم والرياضيات والفلك والطب كان هناك طلب علي المعرفة. وظني أن هذا المناخ الداعم للمعرفة والعلم, التعليم والعلم ظل يتقدم بشكل مطرد إلي أن حدثت النكسة في عام1967, فمنذ ذلك التاريخ تراجعت قيم التفكير العقلاني والعلمي, وتراجعت المعرفة والعلم, وتقدم التفكير الغيبي والأناني وأصبحت العملية التعليمية بكاملها سوقا كبيرة للمرتزقين من الكتب الخارجية والدروس الخصوصية, وتغلغلت البيروقراطية لتحافظ علي مكاسبها الثقافية المحافظة وعلي نصيبها من السوق السوداء التعليمية. إن تجربتنا التاريخية في مجال التعليم هي محصلة وعي المجتمع بأهمية التعليم ومسئول صاحب رؤية ومهني ملتزم بتطوير مهنته, وإلي أن نصل إلي المعادلة علينا ألا نأمل كثيرا في نتائج إيحابية حملات التفتيش الوزارية