حين تستنشق هبابا, وتدخن قطرانا, وتتعثر قدماك في قمامة, وتعيش في غمامة, وتجد نفسك مزنوقا دون غاية, وتحوم حول نفسك حومانا, ثم تعود الي بيتك في آخر النهار منهكا مغلوبا علي أمرك وأمر من حولك. فهل يمكن أن تشعر بالانتماء؟ الإجابة هي: نعم! وإن لم تفعل, فسنضع السيخ المحمي في صرصور أذنك اليمني, وسنتركك بأذن واحدة لاتسمع بها إلا أغنيتي ماشربتش من نيلها و علشانك يابلدي وإن لم يعجبك الوضع, فعليك ضرب رأسك في أقرب حائط! ولأنني بت في الآونة الأخيرة متقلبة المزاج, متباينة المشاعر, مهزوزة الوجدان, أشبه بالغرقان الذي يتعلق في قشاية, فإنني أتأرجح يين لحظة وأخري بين الأمل واليأس. تارة أجد ضابط شرطة يتبرع لطفل صغير بدمه لإنقاذه دون سابق معرفة, فأقول لنفسي لا والله! البلد دي لسه فيها خير كتير, وأكبر خير هو الناس وتارة أخري أفاجأ بمندوب شرطة يستنتطع علي اصحاب السيارات الملاكي الواقفة في الممنوع ل يسترزق بقرشين ملوحا بدفتر المخالفات الشهير بيده فأقول لنفسي: مافيش فايدة! حالنا عمره ماهيتصلح! أجد نفسي رغم صعوبة الحياة استشعر هواء نظيفا يدخل الرئة علي غير العادة بينما المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات يعلن أرقامه ومعلوماته الصادمة عن ارتفاع نسب الفقر, وفشل الحكومة في السيطرة علي الاسعار, وغيرها من كلمات الحق التي لايخشي فيها لومة لائم, ثم ما ألبث أن أصطدم بتصريحات أكل عليها الزمان وشرب علي شاكلة المصالحة الوطنية أرست دعائم الديمقراطية في ظل سيادة القانون أو انخفاض ملحوظ في مؤشرات الفقر في القري المصرية أو طفرة حقيقية في إصلاح نظام التعليم أو ماشابه, فأصاب بسكتة لسانية تدوم أياما عدة وكم من مرة حاولت فيها أن أنأي بنفسي عن مثل هذه المشاعر المختلطة والأحاسيس المتضاربة التي من شأنها أن تجهد صاحبها وترهقه وتعطله عن أداء مهامه اليومية التي تبقيه علي قيد الحياة, ولكني سرعان ما أعود للخوض فيها, سواء من خلال متابعة أحداث وتوابع قضية ما, أو الاهتمام بحدث ما, أو حتي مطالعة مايحدث في الشارع بالعين المجردة. وايمانا مني بحق المواطن في مشاركة أخيه المواطن في أفراحه وأتراحه, فقد قررت أن أشرككم معي في ما وقعت عليه عيناي خلال أسبوع مضي. جودة التعليم كان هناك شعور أو فلنقل أن الحكومة جعلتنا نشعر قبل سنوات قليلة مضت أننا في مصر فاضل لنا تكة ونتبوأ أرفع المناصب ونحقق أعلي المراكز فيما يختص بالتعليم. فقد انهمك وزراء تعليم سابقون في تأليف كتب ومخطوطات حول الخطوات الهائلة والانجازات الجبارة التي تم تحقيقها في حقل التعليم. وتفاخر البعض الأخر بما انجزه مركز تطوير المناهج, والنوعية المفتخرة لما يتم تدريسه للأولاد والبنات في المدارس من معلومات علمية ومواد أدبية وغيرها. وفجأة نجد أنه تتم حاليا إقالة مدير المركز وإنهاء انتداب الكثيرين من مسئوليه لوجود تجاوزات خطيرة! وبعد أن كنا نتحدث عن مافيا الدروس الخصوصية وضرورة محاربتها بدلا من الجدل المتفجر حول فحوي المناهج ودرجة عقمها, أصبحنا نتابع أخبار مغامرات الكر والفر اليومية. فهذه مدرسة تمت إحالة عدد من مدرسيها للتحقيق لأنهم يستخدمون الخرطوم في تأديب الأولاد, ووقف مدير مدرسة عن العمل اتضح أن نسبة الحضور فيها صفر! وعلي الرغم من كارثية وفداحة هذه الاحداث, إلا أنها تعطي المواطن شعورا بأننا عدنا إلي نقطة البداية صفر. فإما أنهم كانوا يضحكون علينا في الماضي ويقولون لنا أننا نجود المناهج, ونطور الأداء, ونحسن المستوي, وإما أنهم يضحكون علينا في الحاضر ويقولون لنا أننا نعيد للمعلم هيبته ونصحح الحال المايل في الثانوية العامة. وهذا يعني أننا في الحالتين مضحوك علينا. وهذا يعني أننا أيضا في الحالتين بعيدون تماما عن مسألة تطوير التعليم ناهيك عن العمل علي جودة التعليم. هوائية المرور مازلت غير قادرة علي فهم الازعرينة المفتعلة التي عشنا فيها علي مدار مايقرب من عام كامل, ونحن نناقش بحرارة شديدة, وبصدق أشد بنود قانون المرور الجديد( أو بالأحري الذي كان جديدا حينئذ) هل نشتري حقيبة الاسعافات المستوردة أم المحلية؟ وهل ستصمد محتوياتها في حرارة الصيف؟ وهل المثلث العاكس يمكن شراؤه من الباعة الجائلين في إشارات المرور أم علينا شراؤه من مختصي إكسسوارات السيارات؟ وهل تعرض من يسير عكس الاتجاه للحبس مبالغة أم عقاب مناسب؟ وغرقنا حتي شوشتنا في هذه الأحاديث, وغاصت في أغوارها برامج ال توك شو, وانخرط في تحليل القانون وبنوده رجل الشارع بكل فئاته, و... ماهي إلا أسابيع حتي ثبتت صحة نظرية التبخر. فقد تبخر القانون في الهواء حتي أصبح وكأن شيئا لم يكن. سائقو الميكروباص يرتعون في أهم الشوارع وأكثرها محورية تحت مسمع ومرأي رجال المرور, وسائقو الملاكي يقودون سياراتهم قيادة اقل مايمكن أن توصف به هو أنها متهورة, أو جنونية, أو هستيرية. سارينات سيارات الشرطة والإسعاف موجودة في الكثير من السيارات الملاكي, والملصقات الدينية تشغل الغالبية العظمي من الزجاج الخلفي, وباصات النقل العام تتبع قانون الغاب في قيادتها, وإشارات المرور, الرقمي منها, وغير الرقمي أشبه ب خيال المآته والنتيجة هي تحول كل الشوارع دون استثناء إلي حالة من الفوضي الهدامة التي تحصد الأرواح, وتضع مصر في مقدمة الدول الأكثر خطورة مروريا. ورغم ذلك, فإنه حيث تتوافر الرغبة لتحقيق السيولة المرورية, وإخلاء الشوارع, وتخطيط الشوارع باللون الأبيض, وتزيينها بالخطوط البيضاء, فإنها تتحقق في دقائق. وهذا يعني أنه في حال أراد مسئولو المرور تحقيق ولو قدر من الرحمة المرورية, فإنهم حتما سيحققونها. الفرصة الغائبة مرة أخري قضايا الشباب تفرض نفسها كل يوم وكل دقيقة. إذا كانت أزمة البطالة أسبابها عصية علي الحل, ومازالت تقف حجر عثرة أمام جهود الدولة, وعلي الشباب أن يبقوا علي أماكنهم علي المقاهي والنواصي لحين إشعار آخر, فإن هناك مشكلات أخري أعتقد أنه يمكن التغلب عليها بكل سهولة, لكن الرغبة غير متوافرة. فالشباب الذي يعمل بجد ويثبت نفسه بكثير من الموهبة والإصرار, كثيرا مايقابل بحائط سد من قبل مديريهم, إما بدافع شعور غالبا مايكون غير صحيح بأن أولئك الشباب شوية عيال, ومش فاهمين, أو لإحساسهم بأن مايفعلونه مثالي وغير قابل للتحقيق رغم أن الشباب يكونون قادرين علي تحقيقه, وأحيانا بدافع من الغيرة, وهي الأحيان التي أعتقد أنها كثيرة. فمازالت الأجيال الأكبر سنا تعيش حالات من الهلع والخوف كلما أثبت الشباب الصغار قدراتهم ومواهبهم, وتزيد هذه الحالة من الفزع حين تتأكد الرؤية بأنهم سيكونون بدورهم مدراء أو مسئولين متمكنين وربما أكثر تمكنا ممن سبقهم. وإذا كنا شعبا معروفا عنه تدينه وتمسكه بفكرة القدر والنصيب, فإن ذلك يتناقض وتمسكنا السخيف بتلابيب الزمن, فسنة الحياة التغيير, والطبيعي أن تكبر أجيال, وتحل محلها أجيال أخري تعترف وتكن كل حب وتقدير لمن سبقتها, ولكن يسمح لها بتسلم مقاليد الأمور لأن هذا هو الطبيعي. ثم أن استمرار المدير في عمله لعشرات السنين ليس من الحكمة أو الحصافة في شيء, فالإنسان بشر, ومن الطبيعي أن يستنفد جهده وأفكاره التي يبذلها في مجال مابعد عدد معين من السنوات ومن الطبيعي أيضا أن الأجيال الجديدة تولد وتخرج إلي الدينا, ليس لتخلل وهي قاعدة في بيوتها, أو مريحة علي القهاوي, ولكن لتتعلم وتتأهل وتتدرب, ومن ثم تصبح في الوقت المناسب هي المسئولة عن قيادة السفينة. والحقيقة أن الإصرار الغريب علي إقصاء الشباب في الكثير من الأماكن يجب أن يتغير, والدليل هو أن الشركات الكبري ومتعددة الجنسيات تفسح المجال للكوادر, الشابة لتصعد السلم, شرط أن يكون ذلك الصعود مرتكزا علي قدرة وموهبة وحماسة, وليس وساطة وكوسة وقرعا. العنف كمان وكمان نضرب ولامانضربش؟ هل قليل من الضرب يفيد أبناءنا؟ أم أنه يجب الامتناع عنه تماما؟ هناك من يقول ماكلنا اتربينا بالضرب, ومافيش حاجة جعلت منا أشخاصا أسوياء إلا الضرب! إيه المشكلة؟! وهناك من يرد بأن الضرب هو اغتيال نفسي ومعنوي للطفل, وليس من حقنا مطالبته بأن يكون إنسانا سويا في حال تعرض للضرب, لأن العنف لايولد سوي العنف. وقد أثارت تصريحات وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد زكي بدر في بدء تسلمه مقاليد أمور الوزارة التي أعتقد أنها الأهم في هذه المرحلة حول إعادة الهيبة للمعلم, والربط بين غياب هذه الهيبة ومنع الضرب وهو مايبدو أنه شجع البعض علي العودة إلي الضرب( إذا كانوا أقلعوا عنه أصلا). ولكن هل يمكن تجزئة العنف في المجتمع؟ بمعني هل لنا أن نطالب المعلم بعدم اللجوء إلي ضرب التلميذ المخطيء والاستعاضة عن فكرة الضرب بعقاب غير بدني أمر وارد في ظل الظروف والمظاهر التي نعيشها؟ وهل من المنطقي أن نربي الصغير علي أن يطالب بحقه في ألا يتعرض للضرب وأن يبادر إلي الاعتراض علي هتك هذا الحق؟ إن نظرة سريعة إلي مجريات الأمور في أي شارع من شوارعنا تشير إلي غير ذلك فشوارعنا عامرة بالخناقات اليومية التي تنشب بين مواطنين إما بسبب الازدحام أو الصراع في الوقوف في طابور العيش المدعم أو اللحم المسعر أو البوتاجاز المختفي. وماهي إلا لحظات حتي يهرع. المتصارعون إلي التشابك بالأيدي, ناهيك طبعا عن القاموس الثري والحافل بكل أنواع وأشكال الشتائم والسباب. وهناك من يسعي إلي التجويد, فيبادر إلي خلع ملابسه حتي لاتقيده في عملية الضرب للخصم. حتي النساء, فقد انتهجن منهج المساواة, وبدأت مظاهر العنف تسعي إلي خناقاتهن, صحيح أن تغطية شعر الغالبية العظمي منهن قضت علي الأسلوب الكلاسيكي في خناقات الستات, ألا وهو شد شعرهن, لكن هناك استعدادا واضحا لدي بعضهن لخوض مضمار الخناقات البدنية. وهذا يعني أن التلميذ الذي قد يتعرض للضرب في المدرسة يري ويعاصر مشاهد التشابك بالأيدي والتراشق بالسباب في حياته اليومية, وهو مايجعل درجة استيعابه وتقبله لتعرضه هو شخصيا للضرب من قبل المدرس أكبر. وليه نروح بعيدا؟ ألا يتابع الصغير برامج ال توك شو في التليفزيون مثلا في أوقات المباريات الساخنة, والانتخابات المزورة, والاحتجاجات التي قد تستدعي تدخلات أمنية بين الحين والآخر؟ ألن يري بعينه كم العنف المستخدم؟ وألن يعرف أن من لجأوا إلي العنف لم يتعرضوا للمساءلة؟ طيب منين ندربه علي عدم تقبل العنف وسيلة تأديبية, رغم أنه يري أن كثيرين ممن حوله من الناس الكبار الكمل يلجأون إليه, ليس فقط كوسيلة تأديبية, بل كوسيلة تهديدية واحترازية أيضا؟ بذمتكم مش لي حق أسلم نفسي لمشاعري المتباينة من الغضب والإحباط وإعادة النظر في مسألة الانتماء هذه؟! ألا تستحق معضلة الانتماء وقفة احتجاجية, ليس علي رصيف الشعب في شارع قصر العيني, ولكن علي رصيف الفكر في رأس كل منا؟! ألا يستحق ضياع الانتماء إلي مطالبة بتدخل الأمن لفض اعتصام المخ؟!