يراودهم الحلم منذ سنوات طويلة.. لم يملوا الانتظار.. هؤلاء الذين رأوا الموت بأعينهم في سبيل لقمة العيش في بلد دق الخطر علي بابها لتعرف طريق الحرب والموت فما كان منهم إلا الهروب من الجحيم للعودة إلي وطنهم سالمين ولكنهم أبدا لم يكونوا غانمين فمن أين الغنيمة بعدما تركوا مستحقاتهم وحالهم ومالهم لأن يا روح ما بعدك روح حقوق بحث عنها أصحابها طويلا منهم من كان يريدها لزواجه أو لعلاج ابنه أو حتي توسيع مصدر رزقه ورزق أطفاله, لأنه باختصار في غربة والغربة كما يقولون لها ثمن وحقوق آخري مات أصحابها قبل أن يتحقق الحلم ليستمر الورثة في رحلة البحث, وقد كان الأمل وتصديق الوعود طريقهم لإجتياز كل هذه السنوات هذا الأمل كانت ملامحه تتواري خلف استرداد الحق الضائع ووعد وراء وعد من الحكومة المصرية تجيبلك حقك لأنك مواطن مصري. 25 مارس2012 اعتبروه يوم عيد.. فذهبوا إلي البنوك لصرف حوالاتهم الصفراء علي أمل تنفيذ الوعد والعودة بالغنيمة التي تركوها في العراق ليعود كل واحد منهم وحيدا من كل شيء.. أمام البنك الأهلي كان المشهد شديد الازدحام.. جميعهم منذ التاسعة صباحا وقفوا في انتظار بدء الصرف لتظهر أولي المفاجآت من خلال اللافتة التي وضعت أمام البنك معلنة بدء الصرف في الرابعة عصرا ومع استمرار ساعات الإنتظار بدأت الأهرام المسائي يرصد حكاية كل حوالة.. وتتوالي الحكايات في مشاهد تتشابه أحيانا.. وتتباين في أخري.. إلا أنها في كل لقطاتها تربط الماضي بالحاضر وما بينهما صورة ل الأمل. الحوالة الأولي صبحي رجب: كنت مستني أتجوز بيها.. اتجوزت وخلفت وولادي اتجوزوا ولسه مصرفتهاش..! آهات مكتومة ودموع تختفي خلف النقاب.. هذا هو حال أم عبد الرحمن بمجرد أن أبلغها زوجها بأول عقبة تقف في طريق حلمها وحلم أولادها والسبب تاريخ انتهاء بطاقة الرقم القومي الذي كان السبب وراء عودة اليأس من جديد والدموع التي لم تنته حتي بعد انتهاء الحديث مع زوجها الذي بدأ حديثه قائلا23 سنة في انتظار المستحقات.. كنت مستني اتجوز بيها والحمدلله اتجوزت وخلفت وولادي اتجوزوا ولسه مستني الحوالة تتصرف..!. قضي في العراق عامين ونصف العام بحثا عن مصدر رزق يستطيع من خلاله تدبير نفقات زواجه ولكنه عاد إلي مصر ولم يكمل بعد مسيرته التي خططها والسبب أن الحرب قامت ليبدأ صبحي رواية تفاصيل عشرة أيام كان فيها بين الحياة والموت عندما علم بضرورة الهروب من الجحيم علي حد وصفه في محاولة للوصول للصليب الأحمر علي نقطة حدود العراق ليقضي أسوأ أيامه وأصعبها في الصحراء ناس بتموت وندفنها حتي من غير ما تتغسل والخوف والرعب لأننا مش عارفين رايحين علي فين. ومع الوصول أخيرا إلي مطار علياء الدولي كان في انتظار من ينقذه من الجحيم والعذاب وتحديدا الحكومة المصرية التي انتظر طائرتها مثل باقي الطائرات التي وصلت لنقل المواطنين من معظم الدول العربية لتنقله في النهاية طائرة نرويجية لينهي ذكرياته السيئة التي صاحبتها دموعه بجملة سمعها من أحد المسئولين وقت الأزمة حينما قال ايه اللي وداهم هناك.. هرد عليه دلوقتي واقوله احنا روحنا علشان مش لاقيين حاجه في بلدنا. واستكمل حديثه قائلا: راجع من غير شنط ولا فلوس وفي الآخر كان كل همهم يسألوني عن دقني وكنت بأعمل ايه في العراق عشان صورتي في جواز السفر من غير دقن..!. وتلتقط زوجته أطراف الحديث قائلة: ابني عنده عيب خلقي في مجري البول ومحتاج عمليات كتيره, وكنت مستنيه الحوالة عشان علاجه فسألتها عن قيمة الحوالة التي تنتظرها فرد زوجها قائلا4 آلاف جنيه تقريبا ووجه حديثه لزوجته.. متعيطيش قولي الحمدلله ده حقنا وربنا هيجيبهولنا, تركته بصحبة أسرته التي جاء كل فرد فيها رغم صغر سن بعضهم ولكل منهم حلمه الخاص الذي سيتحقق بقدوم الحوالة المنتظرة. الحوالة الثانية علي محمد فتحي: كنت مستني الحكومة تجيب لي حقي! عندما التقيته شعرت برغبته الشديدة في الحديث عن حكايته في العراق فقد اقترب مني واشترك في الحديث تدريجيا وأكد أنه أحسن واحد يحكي عن العراق وعندما سألته السبب قال إنه لف العراق كلها حتي الفاو راحها رغم الحرب والخراب اللي كان فيها ثم بدأ في سرد معلومات عن نفسه فهو علي محمد فتحي عبد اللطيف كان يعمل في شركة ري حيث استقر أخيرا في حي الشعب في بغداد. ويتذكر بعدها يوم عودته إلي مصر قائلا أنا بكيت لما نزلت وعندما رأي ملامح الدهشة علي وجهي قال لي انا مشفتش الكباب غير لما رحت هناك.. آه كنت عايش هناك متهني وبكسب فلوس كتير لحد ما الحرب قامت ووقفت الحال ورجعت تاني. أما عن عودته لمصر فكانت من خلال بعض المعارف العراقيين الذين ساعدوه علي التنقل علي الحدود حتي تمكن من العودة إلي مصر لينتهي من حديثه عن الماضي ويتحدث عن انتظاره الطويل للحوالة قائلا كنت مستني الحكومة تجيبلي حقي.. بس الحكومة مش هاممها اللي جوه هتبص للي بره. الحوالة الثالثة خالد عبد الحافظ: مش مستني الحوالة.. بس عايز حقي 23 سنة آخرها ورقة صفرا هكذا بدأ خالد عبد الحافظ حديثه.. هذا الرجل الأسمر أكثر الموجودين تفاؤلا فهو ينتظر الساعة الرابعة عصرا بفارغ الصبر موعده مع الحلم المنتظر, تحدث بابتسامة عندما ذكر لي تفاصيل سنوات عمره التي قضاها في العراق ثم السعودية ورغم أن حديثه لا يرتبط بأولي كلماته حينما تحدث عن الورقة الصفرا التي حصل عليها بعد سنوات من العمل الشاق حيث كان يعمل سباك صحي ففسر موقفه بأنه ينتظر صرف الحوالة التي نزل بها مصر منذ عشرات السنين وفي اعتقاده أنه سيصرفها علي الفور ففي النهاية كان يحمد الله علي عودته لأرض الوطن سالما. واستكمل حديثه قائلا: ممكن اكون مش محتاج الفلوس دي دلوقتي زي ما كنت محتاج لها اول ما رجعت بس ده بردو حقي ولازم اخده, ثم تحدث عن الفوائد التي لم تضاف قيمتها للحوالات الصفراء حيث أكد أن هذه الفوائد لن تصل للمواطن البسيط الذي قضي عمره في بلد غريبة يلم القرش ع القرش وبالتالي هو ينتظر صرف الحوالة لسبب واحد فقط هو اخد حقي. الحوالة الرابعة: أمين علي أمين: تايه في البنك الأهلي بدت عليه علامات الحسرة بعد خروجه من البنك ليقف وحيدا بعدها ينظر للورق الذي أخذ يقلب فيه كثيرا ففي يده حوالتان وبطاقة الرقم القومي والبطاقة القديمة وأوراق أخري, اقترب ليسرد تفاصيل قصته دون أن اسأله فقد كنت أراقبه وأشعر برغبته في الحديث ولم ينتظر سؤالي ليبدأ حديثه قائلا أنا مكتوب اسمي أمين علي أمين هنداوي في البطاقة الجديدة أما في البطاقة القديمة اسمي أمين علي أمين منصور وكان اسمه الرباعي أول مشاكله لصرف الحوالة الصفراء. لينتقل بعد ذلك لمشكلة آخري لخصها في سؤال واحد هو أنا تبع أي بنك يا بنتي ؟ وبدأنا نبحث معا في الورق الموجود علي الحائط حتي نصل لموعد استلامه الحوالة تبعا للتقسيم المتبع سواء في المدة الزمنية أو البنك. الحوالة الخامسة: الحاج موسي: نفسي حد يقولي أعمل أيه عشان لا بأعرف أقرأ ولا أكتب والنبي شوفولي الورقة دي اروح فين.. لا بعرف اقرا ولا اكتب بهذه الكلمات بدأ الحاج موسي أحمد حديثه حيث رفع صوته في محاولة منه لجذب انتباه الجميع حتي يجد من يساعده علي معرفة تاريخ عودته من العراق من جواز السفر لتلتف حوله مجموعة من أصحاب الحوالات الصفراء ينقلون له خبراتهم في رحلة البحث. 23 سنة مرت منذ عودته من العراق وهو يعيش علي أمل صرف الحوالة فهو المبلغ الذي يحقق حلم الأبناء عايز تعب وشقا السنين عشان اضمن مستقبل ولادي من خلال عمله كمبيض محارة علي حد قوله لينهي حديثه قائلا مش مشكلة افضل واقف طول اليوم ولا حتي اجي تاني بس عايز حد يفهمني اعمل ايه عشان اخد فلوسي. الحوالة السادسة: محمود خريج العلوم: حلم ضائع وأموال أيضا جاء باحثا عن نصيبه.. قضي ثلاث سنوات في العراق يعمل في شركة للتبريد والتكييف رغم أنه تخرج في كلية العلوم, حيث قرر ومجموعة من زملائه بعد التخرج التوجه إلي العراق بحثا عن فرص عمل تتناسب ومؤهلاتهم العلمية فقد تخرجوا في كلية العلوم, وهو تخصص يصعب العمل به في مصر علي حد قوله . وبدأ محمود سرد تفاصيل رحلته هو وزملائه إلي العراق, بعد أن قرر أحدهم العودة فور وصوله أرض العراق لأنه لم يحتمل الغربة وهناك من قضي عاما واحدا وشعر باليأس لعدم إمكانية إيجاد عمل مناسب لتخصصه ليعود هو الآخر أما هو فقد قضي ثلاث سنوات كان آخرها نزول بالإجبار بسبب الحرب خوفا من إصابتهم بمكروه لينتظروا بعد العودة صرف الحوالات خاصة أنهم تركوا جميع مستحقاتهم ليطول الانتظار لأكثر من عشرين عاما كان خلالها يسمع فيها الوعود من كل حكومة تأتي وصولا لحكومة الجنزوري التي تحدثت عن الأزمة كثيرا, حتي أتفقوا أخيرا مع الحكومة العراقية ليبدأ صرف الحوالات علي أرض الواقع, ولكنه أبدي قلقه مما سمعه من بعض المحيطين به, حيث كان يخشي من وجود أي عقبة قد تقف في طريق حصوله علي حقه لدرجة أنه بدأ يفحص أوراقه ليتأكد من سلامتها حيث قال لي أشوف البطاقة هتنتهي أمتي عشان دي أكبر مشكلة ممكن توقف الدنيا لأنها عشان تتجدد محتاجة موال تاني. .. وحوالة صاحبها غايب شاب في بداية العشرينيات وقف وحيدا يبحث في الورق لمعرفة موعد صرف الحوالة والبنك التابع له ولأن عمره من عمر قضية الحوالات الصفراء كان علينا أن نسأل عن حوالته الصفراء أو حوالة والده كما اتضح بعد ذلك حيث سافر والده إلي العراق وعمل هناك لمدة9 سنوات وانتظر كثيرا الحصول علي حقه الضائع حيث كان يتحدث إليهم دائما عن سنوات عمره التي ضاعت في سبيل ضمان مستقبلهم لينهي الإبن حديثه قائلا اهو مات قبل صرف الحوالة اللي كان مستنيها.