منذ أن فتح الباب للترشح للانتخابات الرئاسية وهناك العديد من الظواهر السياسية التي يمكن وصفها بالمثيرة واللافتة للنظر والكاشفة لطبيعة المرحلة السياسية التي تمر بها مصر الآن. ولا أعني هنا تحديدا ظاهرة كثرة عدد المواطنين العاديين بما يقترب حثيثا من700 شخص سحبوا أوراق الترشيح من مقر اللجنة الخاصة بالانتخابات الرئاسية, وهم يدركون جيدا أن لا حظ لهم في أن يكونوا مرشحين جادين. ولكن أعني أيضا الظواهر التي تمر بها الأحزاب السياسية عند تحديد مواقفها من دعم ومساندة أحد المرشحين الكبار, وما يرتبط بذلك من انقسامات أو جدل كبير داخل أروقة الحزب بشأن قرار يفترض صدوره لمساندة مرشح بعينه. والحق أن ظاهرة كثرة عدد الساحبين أوراق الترشح تعكس في جزء منها طبيعة البيئة السياسية التي تمر بها مصر الآن, وهي البيئة ذات السيولة والخالية من القيود والتي يتصور معها أي فرد أن بإمكانه أن يحلم بأي شئ وأن يحقق أي شئ. ومن الناحية النفسية الجماعية فإن الشعور بفقدان القيود يؤدي إلي إحدي نتيجتين; الأولي التفكير الخلاق والنشاط الفاعل, والثانية التحليق في الخيال والوهم إلي حد المرض. وفي تحليل سريع لعدد كبير من الساحبين أوراق الترشيح الرئاسي من حيث طبيعة وظائفهم وقدراتهم السياسية وحصيلتهم المعرفية يتضح أنهم يجسدون النتيجة الثانية تجسيدا حيا. والسبب الظاهر هو أن البلاد تفتقد حتي الآن البوصلة والفكرة الجامعة, والمفترض أن استكمال بناء منظومة السلطة المدنية حين يتم انتخاب الرئيس الجديد قبل نهاية يونية المقبل, جنبا إلي جنب وضع دستور يحدد طبيعة النظام السياسي المصري سوف ينهيان حالة السيولة ويحددان البوصلة المطلوبة للمجتمع المصري ومؤسسات الدولة. وعندها سوف يعرف كل فرد المجال الأنسب لحركته والمدي المناسب لطموحه وأحلامه. المسألة إذا في شق منها راجع إلي الفراغ الرئاسي الذي يجسده فقدان قائد يمثل مؤسسة واضحة المعالم, ويمكن محاسبته أو الرجوع والاحتكام إليه حسب الدستور والقانون. ومن هنا تنبع أهمية الانتخابات الرئاسية المصرية الأولي بعد الثورة. والحق أيضا أن السيولة التي جسدتها نزعة كثيرين في الحلم بمنصب رئيس الجمهورية رغم فقدان الحد الأدني من الشروط الضرورية لذلك, تتجسد أيضا في سلوك العديد من الأحزاب السياسية والتي تتشارك معا في سمة واحدة وهي الانشقاق الداخلي حول مساندة مرشح بذاته خاصة من الشخصيات الرئيسية صاحبة الفرصة الأوفر في الترشح وخوض السباق الانتخابي بالفعل. وأصل المعضلة ينبع من أن هذه الشخصيات قررت خوض الانتخابات كمستقلين ذوي قواعد شعبية عامة, وفي الآن نفسه السعي إلي كسب تأييد أحزاب بعينها وبما يوفر أرضية دعم شعبي إضافية تقود إلي الفوز في الانتخابات. وهنا تجد الأحزاب نفسها مطالبة بالمفاضلة بين المرشحين المستقلين واختيار أحدهم للوقوف وراءه, وهو ما يثير الانشقاق بين قواعد الحزب ذاته وقياداته العليا. فقد يكون هوي القواعد أو جانب كبير منها لتأييد مرشح بعينه, في حين تري القيادة العليا أن مصلحة الحزب تدعو إلي مساندة مرشح آخر, وهو الأمر الذي ظهر عليه حزب الوفد حين قررت هيئته العليا دعم منصور حسن في الانتخابات الرئاسية باعتباره مرشحا وافر الحظ ولا غبار عليه من الناحية السياسية أو علاقاته السابقة مع نظام مبارك, في حين كان أعضاء كثيرون في الحزب يميلون إلي مساندة عمرو موسي باعتباره الأنسب للمرحلة الراهنة. ووفقا لما تواجهه جماعة الاخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة يجاهر شباب الحركة بمساندة د. عبد المنعم أبو الفتوح والذي يخوض السباق مناقضا لقرار مكتب إرشاد الجماعة بعدم ترشيح أحد أعضاء الجماعة في الانتخابات الرئاسية. وبما يمثل حالة تحدي كبيرة لقاعدة الأمر والطاعة المعمول بها في الجماعة, والتي تمثل الأساس الصلب لبقاء الجماعة وتماسكها طوال السنوات الثمانين الماضية رغم الملاحقة الأمنية لكوادر الجماعة. ويأتي اقتراح البعض بترشيح شخصية إخوانية محورية مثل خيرت الشاطر للتخلص من صداع أبو الفتوح, ومن ثم الحفاظ علي تماسك الجماعة التقليدي, أو ربما ترك الحرية للاعضاء انفسهم في اختيار من يساءون دون تدخل من الحزب أو الجماعة. ويمتد الشقاق الداخلي إلي أحزبي النور والأصالة السلفيين وبجوارهما حزب البناء والتنمية الذي يمثل الذراع السياسية للجماعة الاسلامية, إذ يتجه كثير من الاعضاء لتأييد السلفي حاليا والاخواني سابقا حازم أبو اسماعيل رئيسا للبلاد, بينما تري قيادة هذه الأحزاب أن هذا الترشيح غير مناسب, لان أبو إسماعيل ليس لديه برنامج أو رؤية واضحة لقيادة بلد كبير بحجم مصر, كما أن حزب الوسط ذا المرجعية الاسلامية يواجه تحدي المفاضلة بين أبو الفتوح ذي الأصول الاخوانية والشخصية الأكاديمية والفكرية د. سليم العوا. المثير في كل هذه الحالات أن عملية المفاضلة الحزبية بين هذا المرشح أو ذاك تتم علي أساس فردي وشخصي ولا علاقة لها ببرنامج المرشح, إذ حتي اللحظة لم يطرح أي من المرشحين برنامجا متكاملا لقيادة البلاد. كما يعتمد كل منهم علي سمة معينة تعرف عنه تاريخيا, كأن يكون له تاريخ عسكري مشرف أو إداري جيد, أو تاريخ نضالي لمواجهة النظام السابق, أو رؤية عامة او مفصلة لتطبيق الحدود وأحكام الشريعة, أو خبرات دولية وإقليمية متراكمة. وهي سمات توضح جانبا من الشخصية الرئاسية المفترضة, ولكنها وحدها ليست كافية للحكم علي كفاءة وصلاحية المرشح رئيسا. ومن هنا تتزايد الفتنة والحيرة للأحزاب والأفراد علي السواء.