الشهر الماضي أتيحت لي فرصة مقابلة د/ تومس بوم ممثل لجنة الشرق الأوسط في مجلس اتحاد الجامعات الألمانية وهو مايوازي مجلسنا الأعلي للجامعات لكن شتان بيننا وبينهم. فالجامعات تنضم الي هذا الاتحاد اختياريا وليس اجباريا سواء حكومية أو خاصة فمن بين380 جامعة في المانيا هناك266 جامعة فقط أعضاء في الاتحاد فالجامعات حرة ومستقلة في كل شيء, رغم أن تمويلها حكومي, فالحكومة الألمانية مسئولة عن تعليم كل مواطن والجامعات بداية حرة ومستقلة في الانضمام من عدمه في هذا الكيان ورغم كونها جهة غير رسمية أو حكومية لكن يؤخذ برأيها وكان يحضر الجلسة رئيس جامعة( أولم) السابق بروفسير فولف الذي قال من ضمن ماقال إنه عرض استقالته في احدي المرات جراء شعوره بثمة تدخل أحد الوزراء في جامعته مضيفا ان قادة الجامعات هم المسئولون عن تفعيل مبدأ استقلالية الجامعات من عدمه. وقبل أن أتنهد حسرة علي حالنا أشفقت علي نفسي ورجعت بذاكرتي للوراء لأتذكر العظماء في بلدي الذين سبقوا الكثيرين في إرساء القيم والمبادئ السامية في حياتنا لكن تركناها ولانملك عليها غير الحسرة فقد ذكرني موقف بروفسير فولف بموقف العظيم أحمد باشا لطفي اليد الذي استقال من منصبه فعليا كمدير لجامعة القاهرة ردا علي تدخل وزارة المعارف في جامعته بقرار نقل عميد الآداب الدكتور طه حسين الي وزارة المعارف ليعمل موظف تأديبا له علي أزمة كتابه الشعر الجاهلي التي كانت مشتعلة وقتها في المجتمع. فقد رأي مدير الجامعة أن الحكومة ممثلة في وزارة المعارف تجاوزت كل الحدود والأعراف وانتهكت استقلالية الجامعة ومالم يقبله فسبقت استقالته تنفيذ نقل عميد من جامعته, وكانت هذه الوقفة الصارمة نقطة فاصلة في تاريخ الجامعات المصرية واستقلاليتها وتدخل الحكومة سياسيا في الحياة الأكاديمية, وكان هذا في9 مارس1933 ليصبح هذا التاريخ عيدا لاستقلالية الجامعة المصرية, لكن بأي جديد جئت الينا ياعيد؟ فالاستقلالية عندنا مجرد شعار نستخدمه احيانا وننادي به أحيانا أخري ونضرب به عرض الحائط دائما!! الجامعات المصرية الآن تأتيها الأوامر الحكومية صريحة وواضحة ولالبس فيها وكأنها مصلحة حكومية تديرها مجموعة من الموظفين فها هو تدخل صارخ بأمر حكومي بتخفيض رواتب أعضاء هيئة التدريس بنسبة10% بدلا من رفعها ولكي تزيد الطين بلة وتزيد من كسر ارادة الجامعات تأمر بتعيين عدد من حملة الماجيستير والدكتوراة وتوزعهم علي الجامعات بنوعيها العام والخاص بغض النظر عن حاجتها لهم من عدمه أو مدي كفاءتهم, المهم الحكومة تواري سوءتها وتخرس الألسنة التي تنادي بسقوطها ولايهم مستوي العلم والتدريس ولاكفاءة العملية التعليمية ولا استقلالية الجامعات وحريتها في تعيين من تراه مناسبا في مكانه وهو بلاشك يجعل الجامعات وادارتها وأساتذتها عل شفا الانفجار! ويبدو ان التدخل وانتهاك مبدأ استقلالية الجامعات لم يعد قاصرا علي جهة واحدة وهي الحكومة بل الجميع, هو ماحدث في الجامعة الألمانية, حينما طبقت قواعد التأديب امنصوص عليها في لائحتها الداخلية وحسبما ينص قانونها الذي أنشئت بموجبه.. حيال مجموعة من الطلاب تجاوزوا في حق جامعتهم وأساتذتهم قامت الدنيا وتم تسييس القضية وكل استخدامها علي هواه ولغرضه الشخصي وأنهالت الأسئلة وطلبات الاحاطة من بعض نواب مجلس الشعب علي وزير التعليم تسأله وتستحثه علي التدخل الفوري ضد الجامعة دون فهم ولا وعي صحيح. الوزير من حقه حماية طلابه وهو يعلم أن هناك قانونا يقول باستقلالية هذه الجامعات وهناك قانون منشئ لها وهو القانون101 لسنة1996 والذي يقول انها جامعات مستقلة ماليا واداريا وهو مالا يدركه البعض وراح يطالب حتي المجلس العسكري بالتدخل وترحيل الجامعة عن مصر وكأنها محتل أجنبي. متهمين الوزير والوزارة بالتهاون في حق الطلاب رغم ان الوزير مارس حدود سلطاته الفعلية علي الجامعات الخاصة وكلف مستشاره القانوني بمتابعة الاجراءات القانونية الخاصة بمجلس التأديب فوجد ان هناك خطوة قانونية لم تستكمل وهي عقد مجلس تأديب استئنافي للنظر في العقوبة الموقعة علي الطلاب المفصولين. وهي لجنة من شأنها تخفيف العقوبة أو إزالتها أو التصديق علي استمرارها لكن كانت المشكلة في أن الاستئناف أنه لايتم الا بالتماس يقدمه الطلبة وهاهم أخيرا تقدموا به وتوشك الأزمة ان تنفرج لاعتقادي الراسخ ان الجامعة حريصة علي مستقبل أولادها. أخلص من ذلك أن الجامعة الألمانية تمسكت بمبدأ استقلاليتها رغم الضجة التي أثيرت حولها ورغم الضغوط التي مورست عليها من كل اتجاه وهو مايمكن ان نسميه بلغة المصالح ضرب لها في سوق التعليم الخاص لكن إعلاء القيم والثبات علي المبدأ وسط الأمواج والأصوات العالية يجب ان يحترم وأن المواءمة السياسية قد تفلح في حل كثير من الأزمات لكن في الحياة الجامعية لايصح الا الصحيح, أقول هذا بعد جدال تم بيني وبين إدارة الألمانية بل هجوم لصالح الطلاب المفصولين الذين تعاطفت معهم ومع حقهم في التعبير عن رأيهم لكن الصوت العالي كثيرا مايضيع تفاصيل من الحقيقة.