قبل غروب الشمس شعرت الأم بقلق مفاجيء لم تدر ما سببه, ثم قالت لابنها إذا شعرت بالجوع.. الطعام في الثلاجة سأذهب لأعود احدي قريباتي لأنها مريضة. وبعد العشاء عادت الأم وبمجرد دلوفها الباب أطلقت صرخة انتبه لها أهالي منطقة جزيرة دار السلام حيث تسكن.. فما رأته أمامها كان أصعب مشهد يمكن أن تراه أم لابنها, ففي أعلي السقف وأسفل المروحة بالصالة كان يتدلي جسد فلذة كبدها مشدودا بدون حراك أزرق اللون. وتجمع الأهالي علي صرخات الأم المكلومة من هول المفاجأة ولم تتمالك أعصابها حتي سقطت مغشيا عليها, وفوجيء الجيران أثناء محاولات افاقتها أن ابنها عماد معلق من رقبته ويتدلي من سقف المنزل. الأهرام المسائي انتقل إلي موقع الحادث بمنطقة دار السلام إلي أن وصلنا إلي مسكن عماد. وبعد المرور علي شارع مصر حلوان الزراعي بمحطة المطبعة ثم العروج ثانية إلي شارع جانبي فوجئنا اننا في منطقة تحتاج أكثر من عين لوصف الحالة السيئة التي يعيش فيها آلاف الأسر البسيطة والفقيرة ومنها أسرة عماد الذي يقطن في مسكن يتكون من حجرة وصالة بدور أرضي يهبط عن سطح الشارع بشكل ملحوظ, وحول منزله كان الخبر واضحا علي كل الأوجه التي صادفناها واتشحت الشوارع والأهالي بالسواد حزنا علي فراق الشاب الصغير ذي الأربعة والعشرين عاما. شقيقه الأكبر مازال مذهولا فاقدا للنطق ولا يهز إلا رأسه, وتطل من عينيه نظرة شرود عميقة وبين فينة وأخري تغلبه الدموع فيسارع أصدقاؤه باحتضانه ومسح دموعه والالحاح عليه بان يذكر الله ولا يعجز. أما الأم فكلما أفاقت تسأل هل مات عماد.. لقد أعطاني35 جنيها يوميته من آخر عمل له.. كان حزينا لعدم انتظامه في عمل, ثم تبكي إلي أن تدخل في غيبوبة أخري وسط صراخ النسوة من الأقارب. محمد سيد جاره قال: قمنا بعمل عزاء لانشغال أمه وشقيقته في الحدث وعدم توازن شقيقه الأكبر وهم ليس لهم عائلة, ثم غلبته الدموع وهو يقول مازلنا غير مصدقين أن عماد فارقنا.. وكان معنا حتي أمس يسألنا عن فرصة عمل بعد أن طرق كل الأبواب.. آخرها طرده من العمل بحجة ترشيد العمالة هو وبعض زملائه من أحد الكافيهات بمنطقة المهندسين واستكمل محمد قائلا عماد كان حساسا للغاية وكان يتيما فقد والده الذي كان يعمل بمنطقة المدابغ بمصر القديمة ولا يوجد لهم أي معاش بعد وفاته, ورغم أن عماد الأصغر بين اخوته إلا أنه كان يتحمل المسئولية خاصة أن شقيقه الأكبر الذي لا ينطق الآن يبحث عن عمل منذ عام دون جدوي لا يدخن وخاشع حتي في سلامه مع الآخرين, ولا يقف علي الطرقات ولا يجلس علي المقاهي.. هكذا بدأ كلامه صائحا الحاج إبراهيم أحمد موظف وجار عماد الذي قال: هذا الشاب كان محترما للغاية وعندما سمعت صراخ أمه نزلت مثل المجنون جريا علي السلم وفوجئت بشقيقتي تبكي علي السلم وتستند علي الحائط قائلة عماد مشنوق وميت وأنا ادعوك أن تسأل الشارع كله.. كان نعم الأدب والأخلاق.. ثم قال أقسم بالله علي صدق كلامي وكان الصديق الوفي لابني الذي كنت أحبه حبا جما لعادته الحديث دائما ووجهه إلي الأرض ومازلت أشعر أني تائه حتي الآن واغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول رفضت شقيقة عماد عرسانا كثيرين لكي تعمل وتصرف علي البيت باحدي الورش التابعة للإنتاج الحربي باليومية. وتساءل الحاج إبراهيم: أين دور الجهات الحكومية في توظيف مثل هؤلاء الشباب فعماد كان مؤهله الدبلوم ووصل به اليأس مداه في البحث عن عمل محترم وكان من العزة بمكان ولا يطلب من أحد أي نقود, وأذكر أني أخذت أوراقه وأوراق ابني وطرقت لهما كل أبواب التوظيف والعمل بدون جدوي. ويبكي وهو يقول مازلت في نكد كبير ومصدوما فعماد عيل من عيالي وليس صديق ابني ويقول أحمد إبراهيم 23 عاما صديق عماد عرفت عماد منذ الطفولة وارتبطنا بشكل أعمق منذ عام2005 وكان يمتاز بحس مرهف وعزة نفس وهما علامة بارزة في شخصيته ولكنه تحمل اهانات كثيرة في تنقله من عمل لآخر في سبيل توفير متطلبات أسرته وفي اليوم الأخير علمت منه أنه اتصل بالمدير السابق بالعمل يطلب العودة للعمل.. ولكن مديره رفض وغلبته الدموع وهو يقول عماد كان يردد أنه يتمني أن يعيش حتي يستقر في وظيفة أو عمل هو واخوته حتي يدخل السرور علي قلب أمه المريضة.. ولكن يبدو أن اليأس قهره وتغلب عليه.. ومازلت مذهولا غير مصدق أنه فارق الدنيا وأضاف رحمه الله.. كان يموت كل يوم حتي انتحر وبابلاغ الأهالي قسم شرطة دار السلام بالواقعة تم اخطار النيابة وبانتقال محمد عنان مدير نيابة البساتين إلي محل الواقعة تبين أن جثة الضحية معلقة بسلك كهربائي في جنش المروحة بسقف الحجرة, التي يقيم فيها مع أسرته وتبين أن جميع الأبواب والنوافذ سليمة وبمناظرة الجثة اتضح أنها لشاب يبلغ من العمر24 سنة وتبين أن السلك يتحمل الوزن بعد تجربة وضع أحد الأشخاص بحجم جثة الشاب. فأمر مدير النيابة بتحريز السلك وارساله إلي المعمل الجنائي لفحصه كما أمر بدفن الجثة بعد تشريحها لبيان سبب الوفاة.