قال لهم: اليوم سأبدأ أولي رحلاتي وسأحلق نحو الشمس... قالوا: لم نعد نحمل من الزاد سوي التقوي... تواترت الانباء عن قدوم رجل من شعاب مكة ونزوله ضيفا علي رجل من أهل الشام, وأن الغناء ظل يصدح حتي بزوغ الفجر منشدين: يا أهل الشام دياركم... ديارنا الغناء رفيق في وحشة أسفارنا تجمعوا أمام بيت الخليفة, وتبدي لهم الوقت كالسيف, وانداح الخبر كالنار في الهشيم فأخذوا يصلون في توسل, واتجهت الأكف بالدعاء, فتبددت غيوم كثر,(وراح الساقي يصب الخمر للغرباء في قنينة من العاج... ويتمتم بكلمات رومية لم يفهمها أحد), حتي بلغ الخراساني أبواب بغداد يحمل النبأ الشؤم, فتوحد الجمع, ونزلوا بساحة كربلاء محتشدين, يخبطون صدورهم ويصفقون, يناشدون الخليفة بأن يتحقق الوعد, وان يقضي علي رؤوس الفتنة, وأن يقي البلاد شر العباد, حينئد انطلق العسس يجوبون الطرقات,يقبضون علي العامه, يقتحمون البيوت ويفتشون المغارات والكهوف, يعترضون سبل القوافل, يبحثون عن رجل صحراوي, يحمل امارات البشارة, يرتسم علي كفيه مرج البحرين, يجاهر بالقول لاتتوقف رحاله عندأرض أو قوم حتي يشيع الغناء فيهم.. فتستحيل القفار الموحشة موائدا زاخراة بالبهجة مثقلة باطيب الطعام مزدانة بمحسنات الشعر...... وقف كبير العسس منحنيا في خشوع أمام الخليفة قائلا في عبارة مقتضبة: لا يوجد أحد داخل القصر أو خارجه يا مولاي فكر الخليفة مليا.. وهو جالس في حاشيته... متحسسا.. لحيته وقال في شرود: طالما لم تعثروا علي أحد فالأمر جلل, فلتجهزوا الركاب وتعدوا الموكب للرحيل رحل الخليفة سرا تحت جنح الليل منشدا الستر, آثرا السلامة وذاع الخبر بين العامة فانطلقوا في الساحات والباحات يهللون فرحين بزوال الغمة وانفراج الكرب, وعقدت المجالس والمنتديات يتصدرها عزف المعازف والقاء الخطب الحماسية والشعر واقيمت سباقات للخيول وسباقات للعدو وعمت الاحتفالات سائر انحاء البلاد.. وصل الخليفة متنكرا في زي اعرابي الي احدي القري النائية الواقعة علي أطراف الصحراء واستقبله أحد البدو المقيمين فيها, وسالة عن مقصده فأخبره بأنه عابر سبيل ضللته متاهات السفر الطويل وأربكته حسابات النجوم, وجلس البدوي القر فصاء مبديا تعاطفه واهبه الأمان وقال له: حدثني عن أخبار المدينة, هل رحل الخليفة؟ فرد الخليفة: لم نأخذ من الصحراء سوي القيظ ولم نتعلم من القمر سوي نظم الشعر فرد البدوي: عبارتك غامضة كأقوال العجم. وراح البدوي يعد الطعام لضيفه.. فيما مدد الخليفة جسده المنهك علي الرمال عاقدا يديه خلف رأسه متاملا سماء مليئة بالنجوم وليلا يحتاط من قمر يصر علي البزوغ. مهاب حسين مصطفي