استمتعت مثل كثيرين غيري لأكثر من ساعتين بالاستماع للشاعر والإذاعي الكبير فاروق شوشة في حواره مع الإعلامية المتميزة مني الشاذلي, فقد كان حديثه كما عهدناه ممتعا وراقيا, وحمل كلامه للمشاهد معرفة عميقة وثاقبة. و جاءت في عبارة سهلة وعذبة جعلتني أتساءل عن سر اختفائه من الفضائيات العربية جميعها. فأنا أمام مصدر من أهم مصادر المعرفة الخاصة باللغة العربية في العالم العربي يتمتع حتي الآن بالحضور اللافت, ومن حلو الحديث وبشاشة الوجه ما يجعله مطلبا لكل قناة تحرص علي المنافسة علي اجتذاب المشاهد بالمادة المعرفية الراقية دون حاجة للابتذال. ولعلي أكون من المفرطين في الإعجاب بالشاعر الكبير, ولم لا وقد نما وعيي منذ الطفولة علي صوته في المذياع في برنامجه البديع' لغتنا الجميلة' و تابعته شابا في برنامجه التيلفزيوني' أمسية ثقافية' كما تابعته بشكل متقطع عبر البرنامج الثقافي في بعض برامج وبعض من إلقاء شعر له ولآخرين. في كل هذا كنت معجبا بالشاعر, البديع الإلقاء, والعذب الصوت, والنقي العبارة. لكن إعجابي به زاد مع مشاهدتي لحواره الأخير, وهذ المرة كان الإعجاب لأرائه في اللغة العربية وأفكاره الجديدة حول طريقة تعليمها. وعندي أن أهم ما قاله الأستاذ فاروق شوشة هو أننا في عصر جديد نتعلم فيه اللغة بالاستماع وليس بالدرس التقليدي في المدرسة, وآية ذلك ان اللغة المسموعة هي التي تشكل في النهاية الوعي اللغوي للجماهير عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وما يطرحه شاعرنا هو مجال دراسات متعددة وعميقة انتشرت في العقود الأخيرة, وهي تتحدث عن إننا في عصر تحول كبير في مجال اللغة ومعارفها. هذا العصر الذي يراه الكثيرون بأنه عصر الشفاهة الجديد, وهو العصر الذي يسيطر فيه الكلام المنطوق في الساحة علي النص المكتوب. وأهم ما يطرحه هذا التصور أن اللغة تتحرك في الزمان من الفم إلي الأذن وما استقرارها علي الورق إلا اصطناع مؤقت كان هدفه الأساسي تخزين الأفكار. غير أنه أحدث أكبر تحول شهده الإنسان في طريقة التفكير. وأظن أنه من الطبيعي أن تكون هذه طريقة الأستاذ فاروق شوشة في فهم اللغة, فهو يغوص في اللغة من خلال التلاوة وليس عبر القراءة, وهو معني باللفظ في سياق الجملة التي تعطي للمعني ظلالا, ومن ثم تكون الفكرة التي يطرحها في طريقة تعليم اللغة العربية في مدارسنا جديرة بالاهتمام. وقد اقترح شاعرنا ان نستفيد من تجارب الأخرين في تدريس اللغة, وأشار إلي الطريقة الإنجليزية التي تعتمد علي القراءة الهيكلية للنص المراد تدريسه, وولعله لا يعلم أن هذه الطريقة مقترحة في تدريس اللغة الإنجليزية في مصر منذ سنوات طويلة ولا زلت أذكر الأستاذ غايث لطف الله والذي أعتبره أحد أفضل معلمي اللغة الانجليزية, كان الرجل يعلمنا اللغة من خلال النص الروائي المقرر علينا, ويدفعنا إلي القراءة بصوت عال حتي يصحح لنا النطق, ثم يتوقف بنا عند جمل بعينها ليشير إلي بنائها, ويطلب منا الإتيان بمثلها, فكانت هذه خير طريقة تعلمت بها اللغة الإنجليزية غير أني لم اجد أحدا يعلمني العربية علي ذات النحو. وأنا لا أعرف من هم المسئولون عن مناهج تعليم اللغة العربية في وزارة التعليم, لكنني أري بوضوح مثلما يري القاصي والداني مقدار التدمير الذي لحق ب'لغتنا الجميلة' في عقول ووجدان أجيال ممن مروا علي أيديهم فكرهوا اللغة العربية, تلك اللغة التي تحولت في أفواهنا جميعا إلي' لغة محطمة' بتعبير عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. إن ظهور الشاعر الكبير علي الشاشة نبهني إلي المستوي الذي وصلنا إليه من هدر للقامات التي يمكن أن نتعلم منها الكثير, ولو أن في مصر وزارة للتربية والتعليم, ولو أن في هذه الوزارة مسئولين عن تعليم اللغة العربية, ولو أن هؤلاء المسئولين علي أدني درجة من درجات المسئولية والتواضع, لتوقفوا فورا عن تعذيبنا وتعذيب أبنائنا في المدارس بمناهجهم وطرقهم في تعليم اللغة, ولطلبوا العون ولو مرة, وأمامهم قامة من قامات اللغة التي لن يجود الزمان بمثلها في القريب, فهل يطلبون؟. وقد اقترح شاعرنا ان نستفيد من تجارب الأخرين في تدريس اللغة, وأشار إلي الطريقة الإنجليزية التي تعتمد علي القراءة الهيكلية للنص المراد تدريسهإن ظهور الشاعر الكبير علي الشاشة نبهني إلي المستوي الذي وصلنا إليه من هدر للقامات التي يمكن أن نتعلم منها الكثير