هل يمكن حقا ممارسة السياسة خارج الأحزاب السياسية؟ إن الديمقراطية تقوم علي أساس الأحزاب السياسية المتعددة التي تتمايز عن بعضها البعض بتوجهاتها الإيديولوجية وببرامجها السياسية, التي تدعو الجماهير للانضمام إليها بناء عليها. ومن هنا يحق ما أكدناه سابقا بأنه لا ديمقراطية بغير أحزاب سياسية. ومن هنا تهافت الحجج التي يقدمها عدد من الناشطين السياسيين الخاصة بضعف الأحزاب السياسية الراهنة, وضرورة العمل خارج الأحزاب! وقد ظهر ضعف هذه الصيغة من تعدد الجماعات التي ترفع شعار العمل خارج الأحزاب السياسية وتشرذمها! وهذه الجماعات لا تضم الواحدة منها إلا عشرات من الأفراد, ويسودها الانقسام نتيجة التنافس علي الرئاسة والزعامة! غير أنه أسوأ من هذا أن هذه الجماعات متشابهة الأغراض, لأنها تركز علي الإصلاح السياسي, وهي حتي متشابهة في التسميات بحيث اختلطت الأمور علي المحللين السياسيين أنفسهم فما بالك بالمواطن العادي! تعددت الجبهات ويبقي الهم واحدا! فهناك الجبهة ضد التوريث وهناك الحركة الوطنية للتغيير التي نصب الدكتور البرادعي نفسه رئيسا لها, ثم تقرر أن الجبهة ضد التوريث ينبغي أن تنضم إلي الحركة الوطنية للتغيير لأن المنسق العام لكلتا الحركتين واحد, ثم ظهرت فجأة وبدون مقدمات حركة وطنية أخري للتغيير بقيادة إعلامي معروف صرح بأنه كان يعد سرا لتشكيل هذه الحركة في الشهور الماضية! وهذه الحركات والجبهات لا تعترف في الواقع بالأحزاب السياسية, وتعتقد وهما أنها يمكن أن تحقق الإصلاح السياسي بمفردها وبعيدا عن الأحزاب السياسية. مع أنه ليست لأي منها قواعد جماهيرية معتبرة! وإذا أضفنا إلي ذلك أن الدكتور البرادعي نفسه لا يؤمن بالأحزاب السياسية, ويرفض رفضا مطلقا الانضمام لأي منها, مع أن هذا الانضمام كان يكفل له طريقا ميسرا لكي يكون مرشحا لمنصب رئيس الجمهورية, ويصر علي أن يرشح مستقلا عن الأحزاب, بشرط أن يعدل الدستور له شخصيا حتي يمكن له أن يترشح, فمعني ذلك أن الرجل لا يؤمن بالأحزاب السياسية وضرورتها في أي ديمقراطية معاصرة! قد يقول قائل ان الأحزاب السياسية القائمة ضعيفة, وأنها لم تقم بوظائفها كما ينبغي, غير أن الحل لا يمكن أن يتمثل في استبعادها كلية من الساحة السياسية! ذلك أن الحل البديل أن تنضم هذه الشخصيات التي تنادي بالاستقلال في الممارسة السياسية ومنها شخصيات مرموقة, إلي الأحزاب السياسية المختلفة لتقويتها وتدعيمها والعمل مع قيادتها لتحقيق الإصلاح السياسي بصورة ديمقراطية حقا. إن التحدي الحقيقي أمام كل من يرغب في تحقيق الإصلاح السياسي هو دخول معركة الانتخابات القادمة, ونقصد انتخابات مجلس الشوري ومجلس الشعب. القدرة علي أن يمثل كل حزب سياسي في هذه الانتخابات بعدد مناسب من المقاعد, ستكون هي بذاتها الدليل علي حيوية هذه الأحزاب وقدرتها علي التعبير عن المطالب الشعبية. أما التحجج بأن الانتخابات عادة ما يشوبها التزوير, فإن السؤال هو كيف استطاعت الجماعة المحظورة أن ينجح منها في الانتخابات الأخيرة ثلاثة وثمانون نائبا؟ هل نجح هؤلاء بالتزوير أيضا؟ لقد نجحوا لأن الجماعة المحظورة نزلت إلي الشارع السياسي والتحمت مع الجماهير ورفعت شعار الإسلام هو الحل, والذي وإن كان شعارا فارغا من المضمون, إلا أنه استطاع أن يجذب أعدادا من الجماهير صوتوا للجماعة المحظورة! النزول للشارع السياسي إذن هو الحل سواء بالنسبة للأحزاب السياسية القائمة, أو بالنسبة للمستقلين الذين يظنون وهما أنهم يمكن أن ينجحوا علي شاشات الإنترنت وعلي صفحات الفيس بوك الخادعة, بعيدا عن الالتحام الفعلي مع الجماهير في المجتمع الواقعي وليس في العالم الافتراضي! ... لكل هذه الاعتبارات رحبت بشدة بالمبادرة الإيجابية التي أقدمت عليها أحزاب الائتلاف الديمقراطي, وهي حزب الوفد وحزب التجمع الوطني والحزب الناصري وحزب الجبهة الديمقراطية. وتمثلت هذه المبادرة في الدعوة لعقد مؤتمر لمناقشة ورقة عمل مقدمة من الأحزاب الأربعة حول التعديلات الدستورية العاجلة.. البديل الآمن للوطن. وقد دارت أعمال المؤتمر حول محاور ثلاثة هي: ضمانات العملية الانتخابية, وضرورة تأكيد الطبيعة الجمهورية لنظام الحكم, وأخيرا إعادة التوازن بين السلطات. والواقع أنه حين اطلعت علي برنامج المؤتمر وقد دعيت لحضوره ولم استطع للأسف لسفري إلي الكويت للاشتراك ببحث في ندوة مجلة العربي عن مستقبل الثقافة العربية, أدركت أنه من أهم المؤتمرات التي عقدتها أحزاب المعارضة. ويرجع ذلك إلي أهمية الموضوعات المعروضة للنقاش, وإلي حسن اختيار رؤساء الجلسات والمتحدثين والمعقبين. وقد عددت مقدمة ورقة العمل المقدمة للمؤتمرالأسباب التي تدعو الأحزاب التي أعدتها للمطالبة بإجراء عدد من التعديلات الدستورية العاجلة تتم قبل الانتخابات البرلمانية وقبل الانتخابات الرئاسية, لإصلاح عدد من الأوضاع الدستورية ليكون ذلك مدخلا لتحقيق توافق وطني يؤدي إلي وضع دستور جديد. والواقع أن هذا الرأي الخاص بأهمية التوافق الوطني إن أريد وضع دستور جديد يتفق مع ما هو معروف بأن وضع دستور جديد لأي بلد من البلاد يحتاج في المقام الأول إلي نقاش ديمقراطي مجتمعي واسع المدي. لأن الدستور الجديد معناه إعادة النظر في كل القيم والموجهات التي وجهت الدستور الحالي ومراجعتها وتعديلها بما يتفق مع التحولات العالمية من جهة, وما يتطابق مع التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي حدثت في المجتمع المصري طوال العقود القادمة. ونحن نري أن المؤتمر الذي عقدته الأحزاب السياسية مبادرة إيجابية, لأننا طالبنا أكثر من مرة بألا تقنع الأحزاب السياسية بتوجيه النقد للسياسات القائمة, وإنما تتعدي ذلك لتقديم الرؤي البديلة التي تقترحها. وقد جاءت الأحزاب السياسية المعارضة في ورقة العمل برؤي بديلة تستحق النقاش الجاد, ليس فقط من قبل الحزب الوطني الحاكم, ولكن من قبل المجتمع السياسي بكل اتجاهاته وفصائله. وقد كانت مقدمة ورقة العمل واضحة تماما في تشخيصها للوضع السياسي الراهن, والذي تراه يتسم بملمحين أساسيين. الملمح الأول هو احتكار الفئة الحاكمة لحق اختيار الحكام جميعا وعلي رأسهم رئيس الدولة, والملمح الثاني هو التركيز الشديد للسطلة في يد رئيس الدولة دون سواه. وقد كانت مقدمة ورقة العمل موضوعية تماما حين قررت وقد استطاعت مصر خلال العقود الستة الماضية في إطار هذه الصيغة أن تستكمل استقلالها وأن تسترد بعد جهد جهيد كامل أرضها من يد المحتل. ومعني ذلك بكل وضوح أن الأحزاب السياسية التي عقدت المؤتمر تنتقد الأصوات السياسية الشاردة التي تدعي أن مصر لم تسترد أرضها بالكامل, وأنها خسرت بتوقيع اتفاقية كامب دافيد والمعاهدة المصرية الإسرائيلية. ونحن ممن يؤكدون أن مصر بعد حرب أكتوبر المجيدة استطاعت بناء علي جهد سياسي ودبلوماسي خارق, أن تسترد أراضيها المحتلة شبرا شبرا, أن تستخلص في عهد الرئيس مبارك طابا بالتحكيم الدولي. غير أن ورقة العمل في مقدمتها تقرر أن مصر عجزت خلال هذه الفترة( العقود الستة السابقة) عن تحقيق تطور ديمقراطي سليم يكفل للشعب حكم نفسه بنفسه, من خلال حقه في اختيار حكامه بإرادته الفاعلة, وحقه في مراقبتهم ومحاسبتهم وتغييرهم من خلال مؤسسات دستورية فعالة متوازنة ومستقرة. وتضيف المقدمة أن الصيغة السياسية القائمة عجزت عن دفع عملية التنمية الشاملة من أجل اللحاق بركب الدول الناجحة. ثم تتقدم ورقة العمل من بعد لعرض الأفكار الرئيسية لكل محور من المحاور الثلاثة. والواقع أن هذه الورقة وأعمال المؤتمر الذي عقدته أحزاب الائتلاف, تستحق مناقشة جادة من قبل الحزب الوطني الحاكم, ومن كل فصائل المجتمع السياسي المصري. لقد شكونا أكثر من مرة من سلبية حركة الأحزاب السياسية المعارضة عموما, وها هي اليوم قد تحركت وقدمت رؤي بديلة للواقع السياسي, تستحق المناقشة ليس ذلك فقط بل الأخذ ببعض الاقتراحات الإيجابية التي يتم الاتفاق علي أنها تحقق فعلا الصالح العام. قد يقول قائل ان الأحزاب السياسية القائمة ضعيفة, وأنها لم تقم بوظائفها كما ينبغي, غير أن الحل لا يمكن أن يتمثل في استبعادها كلية من الساحة السياسية! إن التحدي الحقيقي أمام كل من يرغب في تحقيق الإصلاح السياسي هو دخول معركة الانتخابات القادمة