التأين لمن لايعرفه هو ظاهرة انفصال الجزيء أو الذرة من مكوناتها من أيونات, فالماء المكون من أكسجين وهيدروجين ينفصل إلي الهيدروجين في جانب والأكسجين في الجانب الآخر, وينتج عن هذا الانفصال طاقة تسمي طاقة التأين, وهذا ما بدأ حدوثه مع الثورة المصرية مباشرة بعد11 فبراير2011 وتحول المشهد الثوري من مشهد متحد إلي مشهد متأين يعاني من استقطاب حاد بين جميع الاطراف الفاعلة في المشهد الثوري والسياسي, التأين اصبح سيد الموقف, وقد اصيبت معه مصر بحالة تلبك ثوري حاد, ينشأ عادة حين تتعارض اجندات الاطياف السياسية في شبع ما بعد الجوع, خصوصا وإذا ما كانت الوجبة المشبعة سريعة كالثورة المصرية, والوجبات السريعة عادة ما تؤدي إلي عسر في الهضم, والفهم تعددت الاطياف السياسية, أو بالاحري هي اطياف ذات طموحات سياسية, ولكنها ليست بالضرورة صاحبة وعي سياسي, الليبراليون, اضعف الاطراف قوة واعلاهم صوتا, شبابهم كانوا طليعة الثورة, وشيابهم اصبحوا بعد نجاح الثورة حراسها, وهم جميعا يعتقدون ان لهم السبق والفضل علي الجميع هم عادة ما يطلقون علي انفسهم الثوار الذين لولاهم هكذا يعتقدون لكانت مصر لاتزال ترزح تحت نير الاستبداد, ولذا فهم وحدهم القادرون علي حماية الثورة, بل ويظنون انهم قادرون علي تأجيجها في اي وقت لو لم تتحقق مطالبهم, التي هي دائما مطالب الشعب, أو هكذا يظنون, ومطالبهم تتلخص في دولة مدنية, لادينية ولاعسكرية, وان كانت ثمة حاجة لفترة انتقالية, فيجب ان يكون لهم الحظ في قيادتها والاولوية في تشكيل مجلسها الرئاسي الانتقالي, وهم في سعيهم هذا قد بدأوا حملة شرسة ضد العسكر, فالاخوان والسلفيين بترتيب الاولويات يؤازرهم فيها نخبة من كتاب وإ علاميي الاعلام الناطق باسم الليبرالية, والمملوك في ذات الوقت لرجال اعمال صنعوا ثروات طائلة في ظل النظام البائد الاخوان, ابرع الاطراف فهما وتناولا للمعطيات السياسية, لم يشتركوا في بداية الثورة, ولكنهم يدعون فضل حمايتها ابان انطلاقها, فهم من قلموا اظافر الأمن وتصدوا لبلطجة الفلول قبل واثناء موقعة الجمل, وهم بهذا اصحاب فضل, وهم ايضا اصحاب قوة وتنظيم وهم اذكي كثيرا من اخوانهم الليبراليين في تهديدهم ووعيدهم, تهديداتهم دائما مبطنة, ويجيدون توزيع الادوار, بل ويجيدون جعل غيرهم يسعي لتحقيق مطالبهم دون ان يظهروا مباشرة علي الساحة إلا قليلا ومطالبهم كبرامجهم غير محددة المعالم للاحتفاظ باكبر قدر من المناورة مع الجميع, هم لايريدون العسكر ولكن يبدون دائما وكأنهم علي وفاق معهم, وهم ليسوا من انصار الدولة المدنية, ولكنهم يستعيضون عنها بالدولة الديمقراطية, وهم ليسوا من انصار الدستور اولا, ولكنهم يرغبون في تحقيق اغلبية مريحة في الانتخابات اما مباشرة أو بالتحالف مع السلفيين او اي كتلة اخري حتي يكون الدستور المقبل من صنع افكارهم, غير المعلنة بالطبع, وهذا ما تحقق لهم بالفعل وهم يشاركون الليبراليين في عدم رغبتهم اعطاء العسكر كما يسميهم الجميع اي شكل من اشكال الحصانة أو الالزام, ولكنهم قد بدأوا الآن في التحدث عن خروج آمن, وكأن المؤسسة العسكرية وقيادتها عبارة عن مجموعة من المرتزقة, تبحث عن هروب في جنح الليل, والمؤسسة العسكرية التي كانت ولاتزال عصب الحياة السياسية في مصر علي مدي قرنين من الزمان وجدت نفسها بين المطرقة والسندان, بين رغبة اكيدة في تسليم الحكم لإدارة مدنية, وتصميم كامل علي عدم الخروج من المعادلة السياسية بالكامل حفاظا علي مصالح المؤسسة التي تتقاطع مع مصالح الوطن السيادية في ابقاء صنع القرار الاستراتيجي تحت إدارة عسكرية أو بمشاركة مدنية رمزية علي أحسن الفروض. اجندات متعارضة كان يجب حسمها كلها بدءا من12 فبراير2011 لو وجدت الرغبة في التوافق بين الاطراف الاساسية الفاعلة, ولكن الكل اختار التأين منهجا, وتحول المشهد الثوري بفعله إلي مشهد انقلابي علي طريقة من ليس معي فهو ضدي بذات منهج الوطني الديمقراطي البائد, وتأجل الحسم أو التوافق سنة كاملة, وها نحن علي اعتاب مشهد جديد بعد الانتخابات افضي عن شرعية شعبية في سبيلها إلي التبلور, وشرعية ثورية في سبيلها إلي التآكل, وشرعية قائمة عرفيا في سبيلها إلي تقنين أوضاعها قبل وإبان وبعد التحول الديمقراطي, ثلاث شرعيات تبحث عن توافق في مناخ ساخن ومتأين استغلته القوي العظمي والاقليمية كل يريد تعزيز موقفه الاستراتيجي في لعبة السيادة علي حساب السيادة المصرية الوطنية, وقد تحددت ساعة الحسم في ذات تاريخ قيام الثورة وفي ذات المكان, تحرير2012 والنتيجة مؤجلة لمقالنا الاسبوعي المقبل رغم ان بوادرها كلها تشي بخروج اصحاب الشرعية الثورية المتآكلة من اللعبة الميدانية بعد خروجهم بفعلهم وسذاجتهم السياسية من اللعبة الشعبية, فإلي لقاء.