الثورة أي ثورة هي مثل الدواء الضروري الذي يحتاج إليه جسم المجتمع المنتفض احتياجا ماسا لكي يبرأ من سقمه. ولأنه دواء يستهدف الشفاء وأن يبرأ الجسم من علاته, فانه قد يكون هناك, بالضرورة أو التبعية. ثمة أعراض جانبية قد تظهر مثل طفح جلدي أو بثور وذلك في أبسط صورها وقد تأخذ تلك الأعراض صورا أخري أكثر خطورة مثل التأثير علي الذاكرة أو افشال وظائف حيوية مثل الكبد أو الكلي أو غيرهما. في حقيقة الأمر, فإن المنظومة القيمية للمجتمع المصري قد تعرضت لاختلال أو تشويه نفسي في أعقاب ثورة يوليو ما فتئنا نعاني أعراضه ونعايش تبعاته حتي الآن. فلقد أدت ثورة الضباط الأحرار عام1952, عمدا أو بدون قصد, بكل ما تبعها وواكبها من أدبيات درامية وإعلامية.. الخ... إلي زرع ثمة مفاهيم خاطئة في الشخصية المصرية. أولها هو ربط الغني أو الثراء ارتباطا شرطيا بالفساد, فالشخص الغني لابد أن يكون لصا بالضرورة, ومن ثم, فانه وجب الحقد عليه ومحاولة النيل منه بالحق أو بالباطل, ولم لا فهو الشخص المستغل الظالم, وكيف لا يكون كذلك وهو الثري الذي يمتلك كذا وكذا؟!!! وثاني تلك المثالب, هو ترويج مفاهيم سلبية تري أنه من الأفضل للإنسان أن يكون فقيرا غلبانا راضيا بحالته المعيشية المتدنية دون بذل الجهد اللازم لمحاولة الارتقاء في السلم الاجتماعي. فيقال مثلا, في محاولة التدليل علي عفة الانسان وتعففه عن الكسب الحرام, أنه كان ولايزال شريفا حتي أنه ظل لمدة30 أو40 عاما في ذات المنزل وبنفس السيارة ولم يغير كليهما. مثل تلك المقولة في دول الغرب المتقدمة قد لا تكون مدعاة للاحترام أو التوقير مثلما هو المقصود بها في بلادنا بل قد ينظر لها علي أنها دلالة علي البلادة أو الكسل وعدم محاولة بذل جهود جدية حثيثة لتحسين نوعية الحياة, وهكذا!! يرتبط بالنقطتين السالفتين بالضرورة, رواج ثقافة أخري مدمرة مؤداها بخس الآخرين لحقوقهم أو أشيائهم. فنجد أن تيارا رئيسيا بمجتمعنا يسعي للانتقاص من عمل أو انتاج أو موهبة أو بضاعة هذا الشخص أو ذلك, فيتم السعي, بوعي أو بدون, للنيل من أي شيء حقيقي أو جوهري بدون داع أو مبرر منطقي حتي أن سلوك الانسان الطيب ينظر إليه علي انه نوع من السذاجة أو الخبث وكأن السلوك السوي المنزه عن الغرض أو الهوي أي لوجه الله تعالي من شأنه أن يثير الريبة أو الشك. قياسا علي ما تقدم, فانني ألمح ثمة بوادر قد واكبت العام الأول من ثورة يناير, أتمني أن تجد طريقها سريعا إلي الزوال أو الانحسار. فحقيقة كون أن الشباب قد لعب دورا رئيسيا في تفجير تلك الثورة التي سرعان ما وجدت تلاحما او تعاطفا من مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية, فقد ادي ذلك, وبكثير من المنطق, الي الاشادة المستمرة والثناء المتواتر بتلك الكوكبة من الشباب التي اخذت علي عاتقها اشعال الشرارة الاولي. بيد انه يبدو للاسف ان الثناء قد جاوز المدي حتي ظنت قطاعات من الشباب انهم اهل الفضل وحدهم, وان الفضل اهل لهم حصريا, فهم اهل الثورة والثورة لهم ولا مكان لغيرهم. فتبدي في اطار ذلك ثمة كبرياء مقيت واعتزازا مبالغا فيه في لغة الخطاب سرعان ما تحولت الي كبر وغرور, متوهمين انهم وحدهم الوطنيون المخلصون, وان من يكبرونهم سنا, ليسوا بالضرورة علي هذا المستوي من الوطنية والاخلاص او الاستعداد للبذل والعطاء والتضحية, والا فلم انتظروا تلك العقود الطويلة من سوء المنقلب في سياسات التنمية, فبعد60 عاما من ثورة يوليو, مازال قرابة نصف الشعب يرزخ تحت وطاة امية حقيقية, وقطاعات اخري منه تعاني من امية ثقافية, ناهينا عن ارتفاع مستوي الفقر وتدني مستوي المعيشة.. الخ. تواكبا مع ما سبق او كنتيجة له, ظهرت حالة مجتمعية من الانفلات اللفظي او السلوكي اي تدهور لغة الخطاب ما بين الكبير والصغير سنا, فضلا عن انفلات مناظر شهدته حالات التواصل والاحتكاك بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وكان الثورة وهي في ذاتها قمة النبل والتضحية والفداء بلا انتظار المقابل قد تحولت الي مبرر للفوضي والانفلات او الضيق من كبار السن او المقام, وتحميلهم كل اللوم او العتاب عما صارت اليه الاوضاع في بلادنا. وساهم في تاجيج ما سبق, عدد من المثقفين الذين تسارعوا بحسن النية او استجداء لعواطف قطاعات من الشباب والمزايدة علي المشاعر الثورية من خلال مطالبتهم بتنحي كبار السن في جميع مناحي المجتمع الذين اصبحوا فجاة عالة علي المجتمع, والمطالبة بان يحل محلهم فورا وبدون اي اعداد شباب تواكبا لاجواء الثورة. وكان الخبرات المتوارثة لا قيمة لها, وكان التعليم والاحتكاك بروافد ثقافية متباينة يغني عنهما الحماس الثوري والصوت الاعلي. بيد انه فات هؤلاء ان نجاح الثورة باسرها هو عمل منسوب للشعب باكمله, وليس لفئة عمرية او طبقية ايا كان شانها, فلو اقتصر الامر علي شرارة الثورة الاولي لامكن للنظام السابق اخمادها دون عناء كبير. كما ان كبار السن لديهم العذر في عدم الثورة آنفا لاعتبارات عديدة, منها ان الاوضاع المعيشية او المجتمعية اي حال الدولة بصفة عامة لم يكن بهذا السوء الذي وصل اليه في السنوات الاخيرة, ولم تتح لهذا الجيل من كبار السن فوائد التكنولوجيا الحديثة الفضائيات والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي واجهزة المحمول التي ساعدت علي تجميع وتنشيط مواقف الناشطين السياسيين, كما ان قبضة الامن كانت اقسي من قبل مقارنة بما الت اليه لاحقا في ضوء تدخل الامن في جميع شئون ادارة المجتمع مما ادي الي انهياره لاحقا مع اول مواجهة جدية. يضاف الي ذلك ان نظام حكم الرئيس السابق لم يكن بالسوء في عقده الاول مثلما كان عليه الحال في عقده الاخير, حتي كثيرين ممن هاجموه كانوا من مؤيدي سياساته التي بدت جدية وجيدة علي الاقل خلال النصف الاول من سنوات حكمه. واخيرا وليس آخرا, فان وعي هؤلاء الشباب الذي قاد الثورة لابد انه تشكل من خلال كتابات كبار الكتاب خلال السنوات الاخيرة والتي اتاحت حرية الصحافة والتعبير لهم ثمة مساحة طيبة للغاية لانتقاد النظام وكشف سوءاته. ويقينا فان مجتمعا لا يحترم فيه الصغير سنا الكبير سنا, او الاقل مقاما.. الاعلي مقاما في ظل سيادة ثقافة المواجهة والتهور والتدهور اللفظي هو مجتمع يزيد بنفسه من عثرته وقلقه الاجتماعي.. والمامول ان يتاسي شبابنا بمقولة الرسول صلي الله عليه وسلم, ليس منا من لم يرحم صغيرنا, ويعرف شرف كبيرنا. وفي رواية: ويوقر كبيرنا. نعم فليس منا من لم يوقر كبيرنا.. ووجب علي الجميع ان يعي ان العمل الوطني.. شانه شان العمل الخيري.. هو لوجه الله تعالي, ولا ينبغي المزايدة عليه او التعالي بشانه امام الآخرين. اكاديمي مصري