درج المصريون بصفة خاصة والعرب بصفة عامة علي توقير كبار السن واحترامهم وطاعتهم بقدر ماتسمح به الطاقة والظروف, ويذكر كبار السن من الأحياء الآن, انتشار عادة تقبيل أيادي الأباء والأجداد تعبيرا عن مكانتهم. وكان ذلك في إطار مجموعة من القيم تعلي من شأن الصدق والشجاعة والكرم والإيثار والرضا والقناعة والشهامة والنخوة والاتقان واحترام الآخر. وفي نفس الوقت كان الهرم الاجتماعي منتصرا مستقرا, كل يعرف مكانه, ويعرف أيضا أن قدرته علي الارتقاء مرتبطة بما يبذل من جهد, أي أن الهرم الاجتماعي لم يكن جامدا بل يشهد حراكا مستمرا صعودا وهبوطا. وكان التعليم من السبل الرئيسية للصعود الي طبقة أو شريحة اجتماعية أخري. ويعد طه حسين النموذج المثالي للصعود عبر التعليم, أما العقاد فصعد عبر التثقيف الذاتي. وبالتعليم أيضا ثم الالتحاق بالكليات العسكرية, صعدت أجيال المجموعة اليوليوية. ومن هؤلاء من كانت أسرته تقبع في الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة, وبالتعليم والانتماء للجيش صعدوا إلي الشريحة المتوسطة من الطبقة المتوسطة أو إلي الشريحة العليا منها. أي أن مكانة المواطن ومكانه بالسلم أو بالهرم الاجتماعي لم تكن ضررا مقدورا وهذا الحراك, واستمرار تغيير المواقع هو من أهم العوامل التي حافظت علي الاستقرار في مصر, وحالت دون حدوث شروخ حادة في المجتمع المصري. ولكن تظل القيم السائدة والمستمدة من الدين, وفي مقدمتها الرضا والقناعة هي أهم عوامل الاستقرار. والجدير بالذكر في مجال الحراك الاجتماعي, بروز أعداد كبيرة من العصاميين الذين تمكنوا من تحقيق ثروات عبر رحلة هائلة من الكفاح, والاصرار علي النجاح في ميادين الصناعة والتجارة, وفي مقدمة هؤلاء سيد جلال الذي لم ينس دوره الاجتماعي بعد أن صعد سلم النجاح. ولم يكن النجاح مقصورا علي أهل القاهرة, فهناك عبدالعزيز باشا رضوان ابن الزقازيق والذي تمكن من الصعود من مجرد شيال بمحطة السكة الحديد بالزقازيق الي رجل صناعة وصاحب مجموعة مصانع لحلج القطن وصناعة الزيت وعلف المواشي من بذرة القطن. وفي النهاية قرر الملك منحه رتبة الباشوية وهناك عشرات النماذج, كلها تمكنت من الصعود الي قمة السلم الاجتماعي أو الهرم الاجتماعي. والظاهرة الأبرز أن المجتمع بكل شرائحه, كان يرحب ويقبل ويشجع مثل هذا الصعود, كما أن أي قصة نجاح, كانت تفتح أبواب الأمل أمام الملايين من الطامحين لتغيير واقعهم. وصباح يوم23 يوليو, تصعد مجموعة من الضباط الي قمة السلطة عبر انقلاب عسكري. وفي المقدمة من هذه المجموعة التي تراوحت رتب أفرادها بين النقيب والبكباشي والقائم قام, كان اللواء محمد نجيب. وسرعان ما وجد هذا الرجل الباسم الوجه الطيب ذو النظرة الابوية المريحة والحديث الذي يبشر ولا ينفر. وسواء أكان الرجل عضوا رئيسيا بالمجموعة الانقلابية كما يقول, أو واجهة كما قال عبدالناصر وزملاؤه, فقد كان هو العنصر الذي فتح أمام الانقلابيين باب القبول الشعبي. وبدونه لم تكن هذه المجموعة لتحظي بهذه الدرجة من القبول كان الرجل برتبته ووطنيته وشجاعته في ميدان القتال, وتعرضه للإصابة في العمليات الحربية بفلسطين وتقدمه في السن وملامحه وبساطته يمثل وحده أهم عناصر النجاح, ومع ذلك فقد تنكرت المجموعة اليوليوية لدوره وأنكرت عليه فضله, وتعمدوا الإساءة إليه وإهانته الي أن غدروا به وألقوا القبض عليه وهو كبيرهم ورئيس جمهورية مصر, واعتقلوه في بيت بالمرج مع حرمانه من حريته وإحساسه بالأمان مع إذلاله هو وأفراد أسرته, ولم تكن هذه المجموعة لتتوقف أمام أي اعتبار, فقد كان مصلحتهم أو مصلحة جمال عبدالناصر وطموحاته تقتضي التخلص من نجيب وإبعاده. وفرض عبدالناصر ورجال بلاطه علي كتاب مناهج التاريخ ان يسجلوا في مؤلفاتهم أنه أول رئيس لجمهورية مصر, لاغيا بذلك فترة رئاسة محمد نجيب. ويمكن رصد بعد حلقات هذه السلسلة في التالي: تغليب المصلحة الخاصة علي المصلحة العامة, فقد كان التطلع إلي الانفراد بالسلطة, وراء الإطاحة بنجيب وعدم الاعتداد بالدستور أو بالقيم أو حتي بالقانون والأخذ بنهج الغاية تبرر الوسيلة وهكذا أصبح ميكيافيلي وكتابه الأمير الرائد والمعلم لاعضاء هذه المجموعة. الغدر بالرجل الذي خاطر بحياته عندما قبل المشاركة في الانقلاب, كما سبق أن قبل تحدي الملك فاروق, وخاض انتخابات نادي الضباط في مواجهة مرشح الملك. والذين أيدوا عبدالناصر في تلك الخطوة, قد شربوا فيما بعد من نفس الكأس عندما غدر بهم واحدا وراء الآخر. التضحية بمصالح مصر في السودان, فنجيب بتاريخه وخدمته الطويلة بالسودان وعلاقاته الأسرية, كان موضع ثقة القيادات السودانية, وكانت المجموعة اليوليوية تعلم أن المساس بنجيب سيؤثر سلبا علي هذه المصالح, وسيكشف للسودانيين استعدادهم للغدر إذا ما كان الطريق لتحقيق مصالحهم. الخروج علي قيمة احترام الأكبر سنا والأعلي رتبة ومقاما والتجرؤ علي رئيس الجمهورية, أي أنهم في واقعة واحدة, اداروا ظهورهم للأخلاق والقيم وكل ماهو صواب, لقد أهانوا رجلا أكبر سنا, ويحمل رتبة لواء واعتقلوه وعزلوه وعذبوه وبطشوا بأسرته, وهكذا فتحوا الباب علي مصراعيه امام كل الصغار للتطاول علي الكبار سنا ومقاما وموقعا, وإذا لم يكن ذلك هو الانفلات؟ فكيف يكون الانفلات؟!! وقد سبق الاعتداء علي محمد نجيب, ضرب الفقيه وعالم القانون الدكتور عبدالرازق السنهوري أمام مبني مجلس الدولة بواسطة عدد من الضباط الصغار يقودهم ضابط سيئ السمعة, هذه الحادثة المشئومة فتحت أعين الناس, وكشفت لهم ما ينتظرهم علي أيدي هذه المجموعة, وعندما تعرض محمد نجيب لما تعرض له, كان أفضل ما قاله المصريون حسبنا الله ونعم الوكيل. مثل هذا الخروج علي قيم المجتمع المصري, كان خطوة رئيسية علي طريق إزاحة كل القيم المستمدة من الدين, أي القيم الروحية لإحلال قيم مادية مكانها. نذكر منها الجشع والطمع والانتهازية, وذلك بدلا من الرضا والقناعة والشهامة, وهكذا بالنسبة لباقي البنيان القيمي النبيل الذي كان سائدا من قبل. ولم يكن هناك بين هذه المجموعة من حاول دراسة آثار التطاول والغدر بمحمد نجيب بهذه الصورة, بل لم يكن أي منهم مؤهلا لذلك, وحتي لو كان هناك من تبين أو فهم فما كان شيئا سيتغير, فقد كان الأهم بالنسبة لهم هو التخلص من نجيب والانفراد بالسلطة, وقد كان.