ممتع هذا الكتاب الصادر عن دار الآداب(2322009 ص) الأصح أن أقول هذين الكتابين اثنان في واحد وهو من تلك الكتب الجميلة الفاخرة, التي تطرب العين وتحفز الخيال وتنعش الروح, والتي نضعها عادة تحت لافتة الكتب الفنية, لولا أننا هنا أمام مقاطع من سيرتين, سيرة الرسامة نجاح طاهر بعنوان الهجر, وسيرة الشاعر عبدالمنعم رمضان بعنوان متاهة الإسكافي. رحلة التشكيلية اللبنانية نجاح طاهر هي في الأغلب رحلة عائلتي الأسعد وحمادة اللتين طبعتا تاريخ الجنوب والبقاع الشمالي.. وهي رحلة تاريخها العائلي والذاتي الخاض ضمن تاريخ لبنان العام منذ نهايات القرن التاسع عشر إلي سبعينات القرن العشرين.. لكننا في هذا الكتاب لسنا أمام مؤرخة بل نحن أمام فنانة تعبر عن أحلامها وانكساراتها.. من ثم اكتسبت هذه السيرة أدبيتها, فإذا نحن أمام نص مرسوم بالكلمة واللوحة والصورة والوثيقة التاريخية.. وإذا نحن نعبر الأحداث الكبري بخطا صغيرة, نتابع صاحبتها وهي في الخامسة من عمرها تستمع إلي بطولات جبل عامل.. ثم وهي تكتشف الحياة وتكبر علي انكسار البطولة ويقظة الإنسان. كل ذلك في لغة لماحة, عرفت صاحبتها كيف تطوعها للكشف عن العمق الإنساني لدي عددد من أبطال سيرتها.. فإذا نحن نحضر معها طقوس عاشوراء ونسترق النظر بعينها ونخاف ونحلم ونضحك ونبكي.. ونكاد نري أنفسنا فيها وهي تتحدث عن جدتها: كنت أغنة مدللة في دفئها. وكانت هي تتقصد أن تطعمني بيدها وعندما ألتقط اللقمة أتقصد أن المس بشفتي جلد أصابعها الطويلة الرقيقة, وكأننا هي وأنا, كنا نريد لكل ضمة أن تكون دمعة تؤكد مدي ارتباطنا إحدانا بالأخري ارتباطا أقوي من موتي أو موتها..ص80 ربما جاز لي اعتبار نص نجاح طاهر مفاجأة سارة, لأني أقرأ لها لأول مرة.. لكن الأمر مختلف مع نص الشاعر المصري عبدالمنعم رمضان, الذي أتابع تجربته باهتمام منذ سنوات, وأصبحت أتقدم من نصوصه بخطوة الواثق من العثور فيها علي أهم ما يشدني إلي الكتابة. لم يستعن عبدالمنعم بأي نوع من اللوحات والصور والوثائق.. وعلي الرغم من ذلك فإن النص يتداعي من صورة إلي صورة وكأن اللغة فيه ريشة غمست في السينما والموسيقي والفنون التشكيلية وأخذت تشطح علي الورقة مثل درويش دوار في ذروة النشوة الروحانية والانخطاف الصوفي.. لولا أننا هنا أمام روحانية وانخطاف شديدي الوعي بكل ما هو زمان ومكان وحسية ومادة وروائح وجسد بل وشهوانية.. علي امتداد فصوله الستة يقودنا النص الرمضاني وكأنه خيط أريان.. من رموز العائلة إلي رموز الوطن.. من مقاعد الدراسة إلي حافات الأرصفة.. من اكتشاف اللذة الأولي إلي اكتشاف الخيبة غير الأخيرة.. من الرسوم والكتب والأفلام والأغاني الأولي إلي شروخ السياسة والصداقة والأحلام.. مؤاخيا بين المتناقضات.. مقتحما مغامرة السخرية من العلاقات البريئة والعلاقات الحرام, باعتبارهما في الكثير من الأحيان, مجرد تحالف متخف بين المقدس الفردي والمدنس الجماعي.. في هذا الكتاب لم يغب الشاعر لكنه كشف عن الروائي فيه, عن طريق اللغة, عن طريق الأسلوب, عن طريق البناء القائم علي تداع ظاهري, يزيده تجليا تغييب النقاط وربط الجمل بالفواصل, وكأننا أمام جملة واحدة.. وكأننا أمام ذاكرة تتدفق وأخيلة تتنادي.. بينما نحن أمام تناغم أسلوبي يبرر إعلان المتاهة عنوانا للنص.. وهل المتاهه إلا طرق غير مستقيمة ووجهات مخاتلة وعود علي بدء وحيرة وشك وإقبال علي اللا متوقع علي الممكن؟ ثم ننظر.. فإذا كل شيء في مكانه, ضمن بناء محكم وإن كان غير ظاهر.. وإذا نحن أمام حكي يشعر. وأمام شعر يفكر, كدت أقول يتفلسف: فكر أبي أن يخترع نسبا فنهاه أبوه وقال له: أكثر النسب عسل طيب ووعاء سوء, فعليك بالعسل الطيب ودعك من وعاء السوء, قال أبي: وأين أجد العسل الطيب؟ أحابه أبوه: في النسب الصائع, قال أبي: أتنصحني بالنسب الضائع؟ قال: أنصحك, ثم اختفي, ثن اختفيا, ثم اختفيت.. ص13 كتاب ممتع حقا, وما أندر ما يمتع هذه الأيام.