يكثر الجدل حول الدور الذي اصبح يلعبه السياسيون في حياتنا المعاصرة أمام تراجع دور أهل الفكر والثقافة في تشكيل عالمنا الذي نعيشه.. فقد لعب المفكرون والفلاسفة والمثقفون دورا بارزا في قيادة مجتمعاتهم وتطويرها. بل ووجهوا السياسيين في أنحاء كثيرة من المعمورة, فقد كان أرسطو مستشارا للأسكندر الأكبر وديكارت مقربا من ملكة السويد وفرانسيس بيكون جزءا من البلاط الملكي الإنجليزي وغيرهم من الفلاسفة الذين كانوا عونا وموجهين للعديد من القيادات السياسية, بيد ان هذا الدور تراجع كثيرا منذ منتصف القرن العشرين وأصبحنا اليوم في عالم يقوده السياسيون والمصالح السياسية. ولعله لا يخفي علي أحد أن القرن العشرين شهد صراعا أيديولوجيا كبيرا بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي ظل عقودا عدة الي أن انتهي بتفكك الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن نفسه. فعلي الرغم من ان الطابع العام للفلسفة الماركسية كان علي عكس تيار الفكر الفلسفي المعاصر القائم علي التعددية, فإنها سجلت انتشارا كبيرا لا لشئ إلا لكونها جزءا من نظام اقتصادي وسياسي ساهم بانتشارها في العديد من بقاع المعمورة, فقد تم بناء الدول الاشتراكية علي أسس أيديولوجية فكرية قائمة علي أساس الفكر الماركسي المستند الي دكتاتورية الطبقة العاملة, وصيغت العديد من سياسات هذه الدول بناء علي المنطلقات الفكرية اليسارية, واستقطبت قطاعا كبيرا من حركات التحرر في العالم الثالث, لكن ما لبث هذا الزخم الكبير ان تراجع ثم انهار في مقابل تقدم النظام الرأسمالي الذي يكاديكون الآن النظام الوحيد في عالمنا. وفي هذا الصدد هناك أمران مهمان لعبا دورا أساسيا في انهيار التجربة الاشتراكية من زاوية فكرية, من عوامل أخري عدة بالطبع, وهماالجمود العقائدي وعدم الواقعية, فقد تسبب الجمود العقائدي في الدول الاشتراكية السابقة في توقف التطور الفكري ومن ثم السياسي في هذه الدول, وتحولت الي أنظمة قمعية تعاملت مع أي دعوة للاصلاح السياسي أو التطوير الفكري علي أنها انحراف يصل أحيانا الي حد الخيانة للمبادئ الاشتراكية. ومن جانب آخر كان لعدم واقعية الأيديولوجيا دور ايضا في انهيار الجوانب الفكرية ذات البعد السياسي, فالفكر الاشتراكي كان يمني معتنقيه بمجتمع عادل يدعو للقضاء علي الطبقات ومن ثم إشاعة العدالة في المجتمع الذي سيسود فيه التآخي والمساواة وإلي آخره من المصطلحات الإنشائية, ومع مرور عقود من التطبيق لم يتحقق ذلك في الدول الاشتراكية. دخل العالم في العقد الأخير من القرن العشرين مرحلة جديدة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية, وبدأ معه الحديث عن العولمة, هذه الظاهرة الآخذة في التطور بالتدريج والتي اصبح من الواضح أن الشركات العملاقة هي التي تقودها في هذه الآونة, الأمر الذي يتطلب توفير حماية سياسية لها لحل المشكلات التي قد تعترض طريقها في الانتشار في شتي أرجاء العالم, فالاتفاقات الاقتصادية والتجارية انتشرت في كل أرجاء المعمورة وصولا الي اتفاقية( الجات) التي تكاد تشمل كل العالم, ولا شك في أن هذه المرحلة اتضح فيها دور السياسيين بشكل كبير, الذين أصبحوا يقودون العالم ويدافعون عن مصالح الشركات الكبري. إن التحولات التي يشهدها العالم اليوم والتي تتجه بشكل تدريجي ومتسارع نحو العولمة الاقتصادية, ومن ثم ما ينتج عنها من ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية لا يشير حاليا الي إمكان لعب رجال الفكر أو الفلاسفة دورا يذكر, ويمكن القول بأنه في هذه المرحلة لا يوجد دور حقيقي أو فعلي يمكن أن يلعبه المفكرون أو الفلاسفة في عالم تقوده الماديات والربح والشركات, فكل شئ في التنمية والتطوير اصبح تقريبا يعتمد علي رجال الأعمال لا المفكرين, وعلي التقنيات لا الأفكار, وعلي الفعل والاستخدام العلمي لا التأمل والتفكير النظري, وبشكل عام علي التكنولوجيا لا الإنسان, فعندما لعب المفكرون والفلاسفة في السابق دورا مهما, كانت هذه قضايا ومشكلات حقيقية وتحولات كبري في طبيعة المجتمع, وكان للإنسان دور فاعل فيه استوجبت ضرورة قيامهم بهذا الدور من اجل إحداث التغيرات الفكرية والثقافية, وتأسيس النظم السياسية, والتي توافقت مع التغيرات المادية التي جاء بها العلم. أما اليوم فنحن في عالم مختلف يكاد يختفي منه هذا الدور, والسؤال الذي يتوارد للذهن هنا: هل سينتهي دور المفكرين والفلاسفة في الشأن العام أو العالمي, ويتم الاستغناء عن هذا الدور ؟ والإجابة عن هذا السؤال ما هي إلا تخمينات مبنية علي توقعات فردية لا دراسة علمية وتقوم علي النفي, فإذا كان الدور الحالي محدودا جدا, فإن أصحاب الفكر والفلاسفة سيعودون الي الطليعة التي تقود العالم من جديد لسببين مهمين, الأول: يتعلق بظهور مشكلات وقضايا جديدة ناتجة عن التحولات التي تحدث في عالمنا, والتي ستظهر بعد فترة من الآن, سواء كانت علي الصعيد الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني, علاوة علي التأثيرات التي سيتركها التقدم العلمي والتكنولوجيا علي تفكير الإنسان, إذ ستهدم مسلمات قد نراها ثوابت في عالم اليوم وتغير من نظرتنا للعالم والكون, ويفتح الباب علي مصراعيه للجدل والنقاش من أجل إعادة بناء العقل الإنساني من جديد بناء علي مستجدات العلم وابتكاراته, يضاف الي ذلك أنه ستظهر بالتأكيد علوم جديدة, تحتاج أسسها ومضامينها الي بحث وتمحيص من قبل أهل الفكر والفلسفة لمعرفة مدي علاقتها بالجانب الإنساني والمجتمع بشكل عام. اما السبب الآخر, فيعود الي أن المشكلات المستجدة والقضايا الاجتماعية والثقافية التي ستنتج في المستقبل لن تكون إقليمية, ويتطلب حلها جهدا عالميا, فمشكلة مثل التلوث لا يمكن أن تحل علي مستوي إقليمي أو الانفجار السكاني أو المياه أو غيرها, بالإضافة الي القضايا الاخلاقية والثقافية والاجتماعية التي نتجت عن التطور العلمي ستعيد بلا شك للمفكرين والفلاسفة الدور في صياغة وتشكيل الثقافة والقوانين التي يمكن أن تحمي الإنسان, وتعيد التوازن بينه وبين الطبيعة والتي تستدعي ايضا نقاشا عالميا لا إقليميا, ولعل ما نراه من مؤتمرات تعقد علي مستوي العالم لمناقشة العديد من الأمراض أو المشكلات الطبيعية أو الإنسانية ما هو إلا مقدمة لاستعادة دور أهل العلم والثقافة والفكر الذي صادره السياسيون ورجال الأعمال الذين إن تركوا وحدهم يصوغون ويشكلون العالم كما هو حادث حاليا, فستدفع الإنسانية ثمنا باهظا في المستقبل.