الخلاف الناشئ بين القوي السياسية في مصر منذ ثورة25 يناير الماضي, بل الشجار الدائر حول حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة الدكتور كمال الجنزوري هو في الحقيقة تعبير عن الخلاف بين منطق الثورة ومنطق الدولة. فصنع الثورة الشعبية قد لا يتطلب سياسيين ورؤي سياسية وثورة يناير نموذج علي ذلك, أما بناء الدولة فهو عمل سياسي بالدرجة الأولي ولا يمكن الأخذ برأي كل من شارك في ثورة في عملية بناء الدولة, بل إن عملية البناء تلك لا يمكن أن تتم علي ناصية الشارع وفي صواني الميادين, بل تتم بعودة الثوار الفورية إلي مواقع عملهم دونما إهمال في متابعة مسيرة الثورة. وإذا كان الحماس مطلوبا بل وضروريا للثورة, فإن الحكمة والتعقل والتروي هي الأساس في بناء الدولة وإلا ضاع الحماس سدي وانقلب علينا نتائج وخيمة. وفي الواقع فإن التطورات السياسية التي تشهدها مصر منذ جمعة18 نوفمبر الماضي تؤكد أن كل القوي السياسية ومعها المجلس الأعلي للقوات المسلحة ما زالوا مصرين. فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة تأخر كثيرا جدا في التعامل مع الموقف والتعامل المقصود هنا هو التعامل السياسي مع الموقف وليس التعامل الأمني الذي أدي إلي مزيد من الضحايا بينما تجربة يناير الماضي تقول أنه بمجرد سقوط ضحايا يتعقد الموقف للغاية, خاصة أن المتظاهرين لديهم حساسية فائقة لمقتل أو إصابة مواطن في ميدان التحرير. فلا تظاهر أو ثورة لأن المواطنين يقتلون يوميا بالعشرات نتيجة الانفلات الأمني, بل لعله من المفارقات المدهشة والتي تثير كثيرا من علامات الاستفهام أن أحدا لم يتظاهر في التحرير علي نحو ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين يوم قتل24 مواطنا قبطيا أمام ماسبيرو في التاسع من شهر أكتوبر الماضي. أما المتظاهرون أو الثوار فلا يلقون بالا أو اهتماما يعتد به بما يشعر به المواطنون منذ الموجة الأولي من الثورة في الحادي عشر من فبراير الماضي ولم يتم تقييم الموقف بشكل عقلاني وتقييم النتائج التي تمخضت عنها كل المليونيات التي خرج بها الشباب بشكل شبه أسبوعي منذ الحادي عشر من فبراير الماضي. والقوي السياسية من جانبها منقسمة علي نفسها إلي الحد الذي لا تجد معه قوتين متفقتين في الرأي بشأن أي قضية وانصرف كل منهم إلي حساباته الخاصة محاولا تحقيق أقصي المكاسب بصرف النظر عن موقف القوي الأخري, وبات الإقصاء هو الملمح الأساسي الذي يميز مواقف غالبية القوي السياسية. وأصبحت المباراة بينهم مباراة صفرية بامتياز... إما أن يكسب طرف كل شيء وإما أن يخسر كل شئن بينما الخاسر الأساسي وربما الخاسر الوحيد فيما يحدث هو مصر الدولة والشعب. إضافة إلي ذلك فإن الثورة نفسها باتت مهددة جراء الانفصال الذي يتزايد يوما بعد الآخر بين قوي الثورة والقوي السياسية عامة وبين عموم الشعب المصري, سواء نتيجة إهمال ميدان التحرير للمطالب الأساسية للشعب حاليا وهي الأمن والاستقرار ومعالجة الوضع الاقتصادي, أو نتيجة إصرار الميدان علي فرض وجهة نظره في حاضر ومستقبل مصر. لقد خرج الشباب ومن قبلهم الإخوان في مليونية18 نوفمبر وما تلاها من أحداث احتجاجا علي ما وصفوه بمحاولة المجلس العسكري والدكتور علي السلمي فرض نوع من الوصاية علي الشعب المصري الذي وافق في استفتاء مارس الماضي علي خريطة الطريق التي وضعها المجلس العسكري والتي كان من ضمنها أن البرلمان بأعضائه المنتخبين هو المخول بتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. بينما طالب كل هؤلاء وخرجوا للتظاهر أكثر من مرة لممارسة نوع من الوصاية علي الشعب فيما يتعلق بفلول الحزب الوطني, ثم حاولوا ثانية أن يفرضوا رأيهم علي غالبية الشعب عبر إصرارهم علي ضرورة الرحيل الفوري للمجلس العسكري, ورفضهم الشديد لفكرة الاستفتاء علي بقاء القوات المسلحة حتي يونيو القادم, فخرج جزء من تلك الأغلبية إلي ميدان العباسية يعبر عن رفضه لما يحدث داعما للمجلس العسكري. كنت أفهم أن تتم الدعوة والتظاهر من أجل عقد انتخابات حرة ونزيهة ولينجح فيها من ينجح فتلك هي الديمقراطية. والأمر ذاته ينطبق علي التخوف الشديد وربما الهلع من احتمال سيطرة التيار الإسلامي علي مجلس الشعب بعد فوزه الكبير في المرحلة الأولي من الانتخابات فقرر البعض ممارسة نوع آخر من الوصاية عبر الإصرار علي ضرورة تغيير نظام الانتخابات لتتم بنظام القائمة عساه يحول دون نجاح هؤلاء وكان هو الدافع أيضا وراء فكرة المبادئ فوق الدستورية أو المبادئ الحاكمة للدستور تحسبا لنجاح الإسلاميين. وهكذا بدا الثوار والمتظاهرين وكأنهم لاعبون غير محترفين يصرون علي وضع كل القواعد التي من شأنها أن تضمن لهم فوزا لا يستحقه علي الأقل في المرحلة الراهنة كونهم غير مستعدين لاستحقاقات تلك المرحلة. بل إن الشباب والثوار شغلوا أنفسهم بالتظاهر والمليونيات وتركوا الساحة للتيار الإسلامي يتواصل مع الجماهير ويكثف دعايته للحصول علي النصيب الأكبر من الكعكة ليس عبر ميدان التحرير بل عبر صندوق الانتخابات. [email protected]