لا شك أن ما يحدث علي الساحة السياسية الثقافية من قبل الإسلاميين أو المتأسلمين الآن قد أصاب النخبة المدنية بالكثير من الإحباط, ويستوي في هذا من طالب بإقصاء هذا التيار عن المشهد الثقافي النخبوي. أو من طالب بالتعايش معه. فقد اكتشفت النخبة ان قدرتها علي التأثير في الواقع الثقافي المصري محدودة للغاية, وأن الثورة قد وضعتهم علي غير توقع أمام مأزق خطاب معرفي مغاير, وبسيط, ومؤثر في قطاعات عريضة من الشعب المصري في الريف والحضر. توقعه البعض, وكتب فيه الكثيرون, ولكن المفاجأة الحقيقية جاءت في غلبة هذا الخطاب وتفشيه بحيث أحست النخبة المدنية وأنا استخدمها هنا مصطلحيا فقط أمامه بأقليتها وعجزها عن الفعل والتأثير. ولم ينجح النظام السابق في تصدير الفزاعة للعالم ولنا فقط, بل وفي تحقيقها أيضا, أو في مباركتها, بتركه المجال تماما لأصحاب التيارات الدينية ليرتعوا في الريف المصري دون منازع, فتحول الريف المصري معها وبأثرها وربما لأول مرة في تاريخ مصر الحديث من مصدر محتمل دائم للتنوير بفعل هجرات أبنائه المنتظمة إلي الحضر المصري, إلي مصدر تهديد لمدنية الدولة التي ناضل من أجلها أبناء ذات الريف في القرنين الفائتين, فكانوا رموزا للفكر والإبداع والمدنية, المدنية القادرة علي احتواء كل الخطابات المعرفية بما فيها الديني. وقد اختلفت آراء النخبة حول هذا المشهد ما بين يأس, أو رفض, او استمرار في التعالي النخبوي, أو دعوة للمواجهة والتغيير. ولعلي لا أبالغ إن قلت إن كل هؤلاء مؤمن بحتمية التغيير, وإن اختلفت طرقهم في التعبير عن تأزمهم أمام هذا المشهد المفاجئ في حجمه لا في توقعه. وما يبعث علي الأمل في القدرة علي التغيير شيئان, أولهما, أن بعض تلك النخبة قد نجح في وقت قصير جدا بعد الثورة في التأثير علي الكثير من البسطاء الذين لم يستوعبهم بعد هذا الخطاب المغاير, وثانيهما, أن ذات الخطاب المغاير قد نجح وفي وقت قياسي سابق علي عصر هذا النظام المنصرم في تغيير البنية المعرفية الموروثة الحقيقية والسمحة للريف المصري في فترة أقل من خمس سنوات, انتهت باستشهاد الرئيس أنور السادات, ولم يفعل النظام البائد تجاه هذا الخطاب شيئا يذكر طوال ثلاثة عقود إلا القمع من جانب, والتفزيع من جانب وهو ليس علي هذه الحال من الإفزاع, والتجميل من جانب آخر مع ترك تأثيره كورقة ضغط علي الجميع, حتي أسقطه الجميع في النهاية. التغيير, أو استعادة البنية المعرفية الأصيلة للريف المصري أو علي الأقل تحقيق التوازن بين الخطابات المعرفية إذن ممكن, ويمكن تحقيقه في زمن قياسي أيضا إذا ما خلصت النوايا, كل النوايا, والسؤال هو كيف؟. لا أدعي أني أملك الحل, فطبيعتي الشخصية والمعرفية تنفر دائما من أصحاب الحلول الشاملة والحقائق الكلية, ولكنني أملك الاسهام في البحث عن الحلول, واسهامي في هذا المقام ينحصر في الحاجة إلي تثوير ثقافي يرتكز في منطلقاته علي جميع عناصر الفعل الثقافي, المحتوي, والوعاء الحامل, والمتلقي. والمحتوي يعتمد في الأساس علي إنشاء خطاب معرفي مدني, بسيط في طرحه دون إخلال بالعمق اللازم لتحقيق أثره المرجو, يتناسب مع عمق الشخصية الريفية المصرية التي علي بساطتها وأميتها أحيانا, إلا أنها تحمل موروثا قيميا معرفيا يزخر بعناصر التحضر والتمدن. وعلي هذا الخطاب ألا يقع من وجهة نظري في فخ تفنيد ومقارعة دعاوي الخطاب المغاير حول المدنية أو إقصائه كما يطالب البعض, وإنما عليه أن يمازج بين روح العصر المعرفية وما يتواكب معها في الموروث الشعبي المصري, وبهذا يكون قد أشرك المتلقي في صنعه وكشف المستور عنه بفعل والتجريف الذي اعتمل في وعيه المعرفي التراثي علي مدار ثلاثة عقود أو يزيد, ليتيح أمام الناس البدائل المعرفية الأخري في حرية والمفاضلة بينها بلا إقصاء أو تخوين أو تكفير من أحدها للآخر. والوعاء الحامل أو الأوعية الحاملة يجب أن يتم التخطيط لها محليا عن طريق تشجيع القري والنجوع والمراكز علي انتاج المعرفة, من خلال المطبوعات والجرائد والمجلات والدوريات المحلية, وتحرير أطياف الترددات الإذاعية لتشمل إذاعات محلية في كل بنادر تلك الكفور بل وفيها ذاتها, والتوسع في إنشاء مكتبات القري والحرص علي نشر وسائط المعرفة الرقمية في مدارسها ومقاهيها وبيوتها, وإنشاء جمعيات أهلية تعيد توزيع الحاسبات المستخدمة بالمجان علي تلك القري, وتشجيع العمل الثقافي الأهلي المحلي بكل أشكاله, إننا بحاجة إلي تثوير ثقافي حقيقي لا تجميلي, تتكاتف من اجله كل اركان الدولة لإحداث تغيير جذري في بنية المجتمعات الريفية تعيدها إلي جادة الصواب المعرفي التي تعتمد في الأساس علي القياس والمقارنة بين الأضداد المعرفية لا النقل أو التوجيه من ضد أو آخر, وترفع عن ضمائرنا هذا الإحساس الدائم بالمرارة والخزي الذي نحسه تجاه تلك الفجوة المعرفية الهائلة بين الريف والحضر, الريف الذي أتي بنا كلنا جيلا بعد جيل, والحضر الذي احتوانا ايضا جيلا بعد جيل فأنسانا هذا الريف الرائع, صانع الحضارة علي مر العصور. ياما نفسي اطير والمس لكوني حيطان وأشم ريح الخلق ماشية غيطان واسمع واشوف الضل وشوشني بيقوللي دوق النور غشي الأوطان وعجبي