أبوظبي: رجل له عيون صقر، يقف في مدخل عمارة بوسط القاهرة، ويلقي نظرة قاتلة مصحوبة بتعليمات صارمة علي أحد مساعديه: "لو باظت عملية النهار ده رحنا في داهية". الرجل هو محمود المليجي، وكان يخفي وجهه بصحيفة (الجمهورية) الصادرة بمانشيت يقول: "كيف ترشح نفسك؟". مشهد عابر وليس عابرا في بداية فيلم (بين السماء والأرض) كأنه صنع من أجل انتخابات غامضة، يتقدم إليها، بلا وازع من وطنية، من يجب أن يختفوا من المشهد العام حتي ننسي، ولكنهم يدافعون عن رقابهم ومستقبلهم، لأن "العملية لو باظت. راحوا في داهية". علق صديق عربي قائلا: "هل يتحدث الفيلم عن كواليس ليلة موقعة الجمل؟" في مشهد تال بعد أن يعلق 14 شخصا في مصعد (بين السماء والأرض)، يقول أحدهم إنه صاعد مع زوجته لعيادة "الدكتور مبارك"، فهي علي وشك الولادة، ويطمئنه سعيد أبوبكر ساخرا: "دكتور كويس قوي"، وقبل أن يسعد الرجل بالبشري يفاجئه أبوبكر بإكمال جملته التي تدعو للتشاؤم: "هو اللي ولد بنت عمتي الله يرحمها". وظل المصعد معلقا نحو 90 دقيقة، وقد توحدت فيه مصائر ممثلين للطبقة الوسطي، ولص كبير لا يتورع عن القتل، ولص سريح، وهارب من مستشفي الأمراض العقلية، وأرستقراطي متكبر، وصاحب عين جائعة، وفتاة صاعدة إلي السطح لتنتحر مع حبيبها، وخائن صديقه، ونجمة السينما. والجميل عبدالغني النجدي. والمصعد المعطل ينتظر المهندس، ولكن اليوم عطلة، ويذهب البواب الصغير ليبحث عنه في ستاد الترسانة، فتخطفه المباراة من المأساة، ويجلس وسط المصفقين لإحراز أهداف في الملعب فقط، وحين يغيب القادر علي الإنقاذ، يصبح المواطنون ضحايا تجربة عشوائية يقوم بها بواب جاهل يدفع المصعد للصعود والهبوط بجنون. ومن الإنقاذ ما قتل! قصة قصيرة كاشفة لنجيب محفوظ، واستطاع السيد بدير أن يصوغها سبيكة حوارية مدهشة، والتقطها صلاح أبوسيف لتكون فيلما من الكلاسيكيات، ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية. خلت القاعة التي عرض فيها الفيلم من مشاهدين مصريين، وازدحمت بمشاهدين عرب وأجانب أبدوا دهشتهم من الفيلم الذي صنع قبل 52 عاما! وكان الفيلم بعرضه السينمائي مفاجأة لي، كأنني أشاهده للمرة الأولي، وهو من بين تجارب قليلة في مشاهدة تحف سينمائية علي شاشتها الأصلية. السينما وليس الشاشة الصغيرة التي تختزل الجمال، وتكفي فقط لتوصيل رسالة الفيلم العامة، علي حساب جماليات الصورة. العام الماضي عرض مهرجان أبوظبي السينمائي فيلم شادي عبدالسلام (المومياء)، وفي يوليو 2007 شاهدت في الهند فيلم يوسف شاهين (باب الحديد)، علي شاشة سينمائية تستوعب نظرات قناوي الجائعة إلي فتاة المحطة، وإلي هنومة، نظرات بعمق الاشتهاء والجرح والحرمان والحاجة إلي تحقق شخصي، وهو ما لا تفلح في إظهاره شاشة التليفزيون المستأنسة. كان صلاح أبوسيف محقا، لم يكابر حين ذهب إليه عبدالحي أديب بالسيناريو، فقال له: هذا فيلم مجنون، اذهب به إلي يوسف شاهين. ذهب الرجل، وكتب الحوار محمد أبويوسف، لكن الجمهور فوجئ بأن فريد شوقي يتواري، يدخل إلي مساحة من الظل، في حين يتقدم قناوي نصف المجنون، نصف العاشق، المنتقم الكامل في النهاية. ثار الجمهور "العاطفي"، وغضب علي شاهين وعاقبه سنوات، ثم أعاد اكتشاف الفيلم مع ظهور التليفزيون، وكأنه يرد الاعتبار ويقدم الاعتذار، عن الخطأ في حق الفنان الذي يجب أن يسبق الجمهور والنقاد بخطوات. فاجأني سينمائيون لا أعرف جنسياتهم، حين عرفوا أنني مصري، وهتفوا: "Oh, Cairo station". مثل (باب الحديد) و(بين السماء والأرض) أعمال قادرة علي تجاوز اختبار الزمن واللغة والجغرافيا، استنادا إلي سحر السينما، لو تحقق لها شرط واحد هو الصدق الفني. ولكن (باب الحديد) في الهند كان أوفر حظا من (بين السماء والأرض) في أبوظبي. ففي الهند حظي شاهين وفيلمه بتقديم نقدي عن المخرج وعمله، وفي أبوظبي عرض (بين السماء والأرض) يتيما، علي الرغم من كونه أول عمل في احتفال المهرجان بمئوية نجيب محفوظ. ويتضمن الاحتفال عرض ثمانية أعمال لمحفوظ هي (بداية ونهاية) لصلاح أبوسيف، و(درب المهابيل) لتوفيق صالح، و(الجوع) لعلي بدرخان، و(اللص والكلاب) لكمال الشيخ، و(بين القصرين) لحسن الإمام، إضافة إلي الفيلمين المكسيكيين (بداية ونهاية) و(حارة المعجزات) وهما مأخوذان عن روايتي محفوظ (بداية ونهاية) و(زقاق المدق). غاب المصريون الذين سيشاركون في احتفالية نجيب محفوظ عن أول فيلم يعرض له، وكأن أحمد لوكسر، الذي أدي دور المخرج في فيلم (بين السماء والأرض) كان يصرخ في كل منهم: "دي سينما يا بني آدم مش لعبة. افهموها بقي"، كأنه ينبه إلي أن الفيلم غير تقليدي يشارك فيه (محفوظ - السيد بدير - أبوسيف). عرض الفيلم وحده، في أقسي اختبار لعمل يواجه جمهورا لا يعرف المؤلف ولا المخرج، ولا اللغة العربية، ولكنه معمار فني متين، لا يحتاج إلي من يشرح، أو يثني علي مؤلفه أو مخرجه. وإذا كان الفيلم لم ينجح جماهيريا عام 1959، نظرا لأنه متقدم علي الوعي الفني والجمالي لجماهير اعتادت أن تشاهد أعمال المصطفين (نيازي وحسام الدين) والحسنين (الصيفي وإمام). لم يلجأ أبوسيف عام 1959 إلي مداعبة الجمهور وقد كاد يختنق في المصعد مع 14 مواطنا، أما جمهور المهرجان، وكله من العرب والأجانب الذين لا يفهمون العربية، فلم يجد صعوبة في الفيلم، وأضحكهم الحوار طوال العرض، كأنه فيلم كوميدي، وأدهشتهم قدرة المخرج علي التحكم في عمل تدور أحداثه في مصعد، خلال 100 دقيقة هي زمن الفيلم والأزمة، إلا أنه وجد حيلة للخروج إلي الهواء الطلق في ستاد الترسانة، أو الصعود إلي سطح العمارة حيث ينتظر فريق الفيلم النجمة المحبوسة في المصعد، وهو نوع من التمجيد الهامس للسينما، إذا كانت "مش لعبة"! في عروض أخري، بعضها لا تقارن بأهمية (بين السماء والأرض) يحرص بيتر سكارليت مدير المهرجان علي الحضور، وتقديم مخرج أو الحاضرين من فريق العمل، وأظن هذه اللخبطة جزء من ارتباك بدأت به الدورة الخامسة (13 22 أكتوبر)، فالافتتاح الذي يفترض أن يبدأ في السابعة، تأخر نحو 90 دقيقة، في ظروف صعبة يقل فيها الأكسجين والقدرة علي الاحتمال، حيث المسرح المكشوف غير مريح، والرطوبة والحرارة هي رطوبة الخليج وحرارته، ولم يقدم أحد تفسيرا للتأخر، ثم قدمت فقرة استعراضية قصيرة، تنتمي إلي المسرح التجريبي أو السيرك، ولم يصعد أعضاء لجان التحكيم، واكتفي المهرجان بعرض صورهم وأسمائهم علي الشاشة، وأحيانا تعرض الصورة ويسقط الاسم، وأسقط التقديم أسماء أعضاء لجنة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (فيبريسي). ووسط هذه اللخبطة يسهل ألا يجد ناقد أو صحفي مكانا لمشاهدة فيلم بعينه، إذ تنفد التذاكر، كما حدث في عرض الفيلم التسجيلي (التحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي) إخراج تامر عزت وآيتن أمين وعمرو سلامة. فماذا لو نظمت عروض خاصة بالصحفيين والنقاد؟