كم هي ثقيلة تلك الأمانة التي حملتني إياها أرض الفيروز.. أحلام وآمال وآهات وحكايات تاريخ وآمال مستقبل..أشعر بهم وقد أثقلوا كاهلي إلي أن كتبتها علي الأوراق.. وإن ظلت أحلام المستقبل تؤرقني وحكايات التاريخ تستدعي دموعي. ثقيلة تلك الأمانة حتي بعد أن حاولت جاهدة علي مدار الحلقات السابقة من هذا الملف أن أخفف عبأها بأن أكتب كل ما شاهدت وسمعت ولامست بالمعايشة والمحادثة وربما أحيانا بالصمت, ولكن هذه الرسائل الأخيرة من أرض سيناء كان لابد أن أوصد بها باب الفيروز لتكون مسك ختام الرحلة متعمدة ذلك كي لا تسقط سهوا إحدي الرسائل بين ثنايا تفاصيل الموضوعات السابقة...85 مليون مظروف أحمله من تلك الأرض مذيلة بتوقيع السيناوية الي كل المصريين.. والحق لا توصف تلك المتعة التي حققتها بأن حولني أبناء البدو من ساعية وراء الحكاية والرقم والتاريخ والمعلومة والخبر البعيد.. إلي ساعية عهد ومستقبل جديد... رسائل من سيناء نبدؤها وكعادة استهلالنا للخطاب.. ودنا نعيش مكرمين معلومي المصدر والأصل والنسب قالها سيد عودة نصر وهو يحكي قصة الشهيد نصر عودة الذي كان بعد النكسة يعمل مع عميد المجاهدين محمد اليماني ضابط المخابرات المصرية, ليقوم نصر بطلعة وبصحبته ضباط مصريون قادهم عبر الملاحات للاسماعيلية سيرا علي الاقدام لنبقي حتي هذه اللحظة لا نعرف أين هي جثته لنقوم حتي بدفنها. ومن يومها بيصرفولنا172 جنيها في العام يعني13 جنيها وما ينطبق علينا ينطبق علي كل المجاهدين وذويهم إلي أن جاء مراد موافي محافظا لسيناء ولاقينا في عهده القصير تقديرا واحتراما وقال أنا عشت مع المجاهدين واعتبر قضيتهم قضيتي ورفع المبلغ الي700 جنيه: شهريا500 جنيه من الدولة و200 من الشئون الاجتماعية, وكنا عشمانين أن يعطوا أسرة كل مجاهد5 فدادين نستصلحها وننتج ونصدر للخارج ولكن أرض ترعة السلام راحت لناس غير ناسها.. اللي شاطرين فيه بس يقولوا من وقت للتاني إننا خونة.. لا وكمان توصل البجاحة بإنهم يلقبونا نحن الذين دافعنا عن شرفهم كلهم يهود سيناء لسنا من قتلنا السادات ولا من حرق كنيسة القديسين ولا نحن من قام بأحداث طابا ولا نحن من نزرع المخدرات ونتاجر في السلاح.. فلماذا يعاملوننا علي إننا ولاد كلب وهما ولاد الناس؟!!, إحنا أكتر ناس دقنا الظلم والذل في عهد مبارك والعادلي وأمن الدولة لكنا متفائلون بعد الثورة وعندنا أمل ان معاهدة كامب ديفيد التي قلصت من وجود الجيش تتعدل أو يعاد النظر فيها ويجب أن يعلم الجميع أن أمن سيناء هو أمن مصر. ودنا نعيش قالها أحد المجاهدين.. هذا الوجه العجوز عم سعدي سالم.. الذي داعبت التجاعيد كل مللي من وجهه الأسمر وهو يجاهد ولكن هذه المرة كي يرتب الجمل والقصص يجاهد مرض الزهايمر الذي يقف علي حافته.. والحق لم أكن يوما طبيبة بشرية لكن هذا الإنقطاع عن السرد والعودة الي موضوع الحديث بصعوبة لا يفسره إلا الزهايمر الذي هزمناه مع عم سعدي قبل أن يمحو تفاصيل النضال حين بدأ قائلا مشيت مع الصليب الأحمر وقت الإحتلال الي فلسطين كي أري أهلي المهجرين هناك وكنت وقتها في الثانوية العامة, وكان الشيخ سالم والشيخ متعب أولاد عمومتي وهم من ربوني. ويستكمل بعد أن يؤكد لي أن حرارة الشمس السبب في نسيانه المتكرر لما كان يقول أه.. وقتها جندني الشيخ سالم ودربني علي جهاز إنجليزي للتجسس والشفرة.. ويصمت قليلا ويضع يديه علي رأسه ليتذكر ماذا كان يقول, ثم ينظر الي بعينين دامعتين ويقول هي بس الشمس دوختني.. وكدت أجن لأعرف اتدمع هاتين العينين في قلب ذاك الوجه الأسمر إثر النسيان أم الذكري! ويستطرد بعد أن يلقي اليه خالد بأخر ما كان يقول أه.. صح.. ذهبت الي حدود اسرائيل ووصلت الي القبة الصخرية كي أقوم بالتجسس لمصر, وهناك ودون أن يكتشفني أحد عرض علي الإسرائيليين ساعة ذهب بها جهاز تجسس لأرتديها واذهب الي الصالحية لاقوم بالتجسس لصالحهم لكنني رفضت أن أخون بلدي عم سعدي المجاهد الذي عرض نفسه للموت ليتجسس لنا أثناء الحرب علي العدو لديه من الأبناء8 ولا يتقاضي أي معاش, وحين سألته عم تفعل لكسب قوت اليوم قاللي بلغته السيناوية التي لم يقو عليها الزهايمر عليها بنجاهد ونضل نجاهد لنكسب اللقمة بشرف, ما بدي معاشات ولا شي كفاني نعيش وسط ولاديفسألتهأتريد أن تعود هذه الأيام مرة أخري.. وبلا تررد أجاب بس هاي المرة نكون نحنا اللي بنحرر فلسطين.. والله لو كنت عضم في قفة لنحبي علي ايدي ورجلي لأجل أجاهد ثاني لمصر. الأكثر درامية في هذا الرجل المجاهد المناضل الذي لن نعطيه حقه مهما اقتنصنا من قاموس الكلمات من وصف نصفه به أنه وبعد كل ذلك قرر أن هناك المزيد يمكن تقديمه لمصر من خلال التبرع بقطعة الأرض التي يملكها لتنشأ عليها مدرسة لأطفال القرية, وبعد أن بنيت المدرسة طلب أهالي القرية من خلال طلب رسمي أن يتم إلحاقه للعمل بها كعامل عادي ولم يتوقع أحد ماجاءهم من رد علي طلبهم.. نحن في غني عنه ودعا نعيش قالتها أشواك الصبار علي الحدود.. دامعة صارخة علي أحلام التنمية التي أصبحت سرابا جعل أبناء القبائل السيناوية يتساءلون لمصلحة من حدودنا صارت صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء ؟! وخط أبناء سيناء السطور القادمة بالبونط العريض مناشدين المجلس العسكري ووزير الزراعة ليجدوا حلا جذريا لمشكلة تملكهم أراضيهم علي ترعة السلام خاصة منطقة جلبانة التي استثمروا فيها واستصلحوها بالفعل بمبالغ وصلت الي30 مليون جنيه حتي أثمرت ليفاجئهم جهاز تعمير سيناء بطردهم من الأرض, ليتساءلوا ويسألوا اليس من حق أهل سيناء أن توليهم القيادة السياسية إهتماما كما حدث في توشكي؟!, اليس من حقهم أن يشعروا_ وعلي الأقل_ بمعاملة كتلك التي عندي معاملة اناس غير مصريين في مشروع الجنوب توشكي؟ ودنا نعيش قالها خالد خلف مدير جمعية روابط التنمية حين أكد أن25 جمعية أهلية فقط من أصل300 يعمل عملا حقيقيا في سيناء وعلي المحاور الثلاث الاساسية هناك المحور الإنساني الإجتماعي وجمع التبرعات لأيتام البدوو محور التنمية وإعادة تأهيل العاطلين, ومحور التثقيف السياسي للشباب البدوي في ظل رغبتهم في خوض تجربة الديمقراطية التي مازالت تحبو. وفي هذه السطور وجه خالد نداء الي وزارة التضامن الاجتماعي والتي طالبها بوقف نزيف البيروقراطية القاتل, كما طالب وزارة التعاون الدولي ببث الدعم الي كل الجمعيات وليس إحداها بعينه دون الأخر ليشاركوا في حلم تعمير سيناء الذي يراود الجميع هنا ليلا نهارا. وأخيرا.. الرسالة الأهم والأكثر تكرارا هنا.. علي الوجوه قبل اللسان.. ومن الصغير قبل الكبير.. ودنا نعيش.. ودنا تعديل إتفاقية كامب ديفيد لتزيد أعداد قواتنا المسلحة علي حدودنا لتحمينا فبعد أن ذقنا مرارة لاحتلال في1967 وحلاوة الاستشهاد في الصفوف الأمامية بحرب اكتوبر اعتقدنا أنها نهاية ألامنا علي الحدود ولكن سماح وأبو حمدان مرورا بكثير من الشهداء وحتي ضباطنا الذين قتلوا أخيرا بأيدي الصهاينة, كل ذلك أثبت ضرورة زيادة أعداد قواتنا المسلحة وهي الوحيدة القادرة علي تحمل تلك المسئولية.. ودهم يعيشوا.. هكذا قررت أن أختم_ نيابة عنهم_ هذا الخطاب لأؤكد أنني ومن خلال هذه الرحلة رأيت بعيني علم مصر في العيون والقلوب قبل الشفاه, رأيت شريط التاريخ يجري أمام عيني ويصدق علي القول المأثور هذا الشبل من ذاك الأسد.. إنها أرض الفيروز قراء سطورنا الأعزاء.. رحم تمخض وسط الحروب.. رحم لا يلد إلا مصريا ابن مصري ابن مصرية.. فهل لهم أن يعيشوا ؟! وهل تستمع الآذان لهؤلاء ؟! هل أزور سيناء في العام القادم بعد أن أسرتني لأري اللون الأصفر تبدل للأخضر فيسقط عن كاهلي ما حملته من هموم وآمال ودموع.. بتحققها علي ارض الواقع؟.. لا نملك الإجابة.. ولكن نملك أن نقول سنعود يا سيناء!