منذ اللحظات الأولي لوصولنا إلي موسكو, أدركنا أن العاصمة الروسية تعد ساحاتها لحدث غير عادي, حدث جدير بأن يلقي تقديرا وحفاوة خاصة, فالرئيس عبد الفتاح السيسي يحظي هنا بتقدير يعكس عمق العلاقات المتميزة بين القاهرةوموسكو, وبين الزعيمين السيسي وبوتين حيث شهدت, مصر وروسيا في عهدهما تغيرات غير مسبوقة, فالسيسي أعاد لمصر سيادتها, وحافظ علي وحدتها وتماسكها, واسترد عافية اقتصادها, واستعاد ريادتها علي المستويين الإقليمي والدولي حتي صارت موضع إعجاب العالم وتقديره, ويقود مصر نحو تنمية حقيقية تحقق لشعبها حياة يستحقها من الأمن والاستقرار, والإصلاح لما أفسدته عهود سابقة, كما أن بوتين أعاد لروسيا مكانتها كقوة عظمي يحسب لها ألف حساب, ويقودها نحو بناء منظومة دولية قادرة علي حفظ التوازن العالمي, في مواجهة الأزمات والقضايا الإقليمية والدولية. إن ما شهدته هنا في موسكو, من حفاوة الاستقبال والترحيب بالرئيس عبد الفتاح السيسي, أمر له دلالته التي لا تخطئها العين, ولا تغيب عن رؤية المتابع الجيد لمجريات العلاقات بين الدول, لا سيما إذا كانت في مستوي مصر وروسيا, ولم يكن ما رأيته وتابعته في لقاء الرئيس مع مجلس الفيدرالية الروسي وإلقائه, كأول رئيس أجنبي, خطابا أمام هذا المجلس, إنما يقدم دليلا آخر علي ما يحظي به الرئيس من مكانة وتقدير, بل إن التصفيق الحار الذي قوبلت به كلمته مرارا في أثناء إلقائها يكشف مدي التفاعل بين مجلس الفيدرالية, وبين ما طرحه الرئيس من رؤي وأفكار في كلمته, التي اعتبرها المجلس كلمة تاريخية واعتبرت رئيسة مجلس الفيدرالية حديث الرئيس أمامهم شرفا كبيرا للفيدرالية, باعتباره أول رئيس دولة في العالم يتحدث أمام مجلسها, مؤكدة أن الرئيس السيسي شخصية سياسية مرموقة يتسم بالحكمة وبعد النظر, وأنه مخلص إخلاصا كبيرا لبلاده, وأحسب أن هذه الكلمات تحمل أكثر من دلالة, لعل أبرزها أن الرئيس السيسي زعيم من طراز خاص, جاء به القدر ليتحمل أمانة وطن يستحق أن يبقي قويا عزيزا آمنا مستقرا, تحت قيادة تدرك قيمة هذا الوطن, وما يستحقه من ولاء وتضحية وانتماء. واليوم يتابع العالم القمة المرتقبة بين الزعيمين السيسي وبوتين, وهي قمة ستشهد مفاجآت غير مسبوقة, بل إنني أستطيع, عبر مصادر رفيعة المستوي في الوفد المرافق للرئيس, أن أؤكد أن جميع الملفات مطروحة للنقاش علي طاولة المفاوضات, سواء ما يتعلق منها بالشق الثنائي أو السياسي أو الإقليمي, إضافة, حسب تصريحات السفير بسام راضي المتحدث باسم رئاسة الجمهورية, إلي الملفات التي تعد عاملا مشتركا أعظم في جميع الزيارات والمباحثات التي يقوم بها الرئيس السيسي, وفي صدارتها مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف, وسبل تعميق وتوسيع نطاق العلاقات الثنائية بين القاهرةوموسكو في مختلف المجالات, وأعتقد أن هذه القمة ستمثل انطلاقة جديدة لعلاقات متميزة في أساسها, متطورة برشد, في إطار حرص مشترك بين الزعيمين, لتحقيق مصالح بلدين يحتفلان بمرور75 سنة علي إنشاء العلاقات بينهما. والمؤكد أن القمة تحمل مقومات نجاحها, وذلك أنها تنطلق من أرضية ثابتة, تعتمد علي توافق في وجهات النظر بين مصر وروسيا لمواجهة القضايا الشائكة في المنطقة العربية تحديدا, كما أن مصر لديها وجهة نظر محددة, هي أيضا موقع اتفاق, تقوم علي ضرورة الحفاظ علي مفهوم الدولة الوطنية, بما يعنيه من الحفاظ علي كيان الدولة ومؤسساتها, ووحدة أراضيها, وتقوية جيشها النظامي, إضافة إلي الحفاظ علي مفهوم المواطنة, والجمع ما بين فئات الشعب بأكمله, بصرف النظر عن أي انتماءات. وتأتي هذه القمة بعد مباحثات أجراها الرئيس السيسي أمس مع ديمتري ميدفيديف, رئيس الوزراء الروسي, تناولت عددا من القضايا الدولية والإقليمية, وملفات مهمة في التعاون الثنائي, خاصة في المجالات الثقافية, والسياحية, وتوطين الصناعات, والتعاون في مجال السكك الحديدية والطاقة. وفي هذه المباحثات, أوضح الرئيس السيسي أن الاستثمارات والصناعات الروسية لديها فرصة كبيرة للوجود في السوق المصرية, للاستفادة من البنية التحتية الحديثة في مصر, وللنفاذ منها للأسواق الإفريقية, كما أعرب الرئيس عن تقدير مصر لحفاوة الاستقبال الروسي, مشيدا بالعلاقات المصرية الروسية. فيما أشاد رئيس الوزراء الروسي بخطوات الإصلاح الاقتصادي المصري والمشروعات التنموية الكبري التي تنفذها, مؤكدا حرص روسيا علي مساندة مصر في جهودها التنموية, ومواقفها في مواجهة الإرهاب, ودورها في ترسيخ الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط. وللمرة الأولي, جاءت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي أمام مجلس الفيدرالية حدثا استثنائيا; في توقيتها, وما طرحته من قضايا وما بعثت به من رسائل, تعكس عمق الرؤية, وحكمة القيادة, وقدرتها علي النفاذ إلي جذور القضايا والمشكلات الدولية والإقليمية, وتحديد أبعادها, ومجالاتها, ومحاور التعامل معها, وصولا إلي طرح حلول واقعية لمعضلاتها, وفتح أوسع الآفاق لتجاوز أزماتها, وأستطيع في هذا السياق القول بأن الرئيس في كلمته التاريخية ركز علي مجموعة من المبادئ والمحاور ربما جاز لي رصدها في النقاط التالية: أولا: إن شعب مصر يعتز بما يجمع بين البلدين الصديقين; مصر وروسيا, من روابط تاريخية لا تزال أصداؤها حاضرة حتي الآن, وهذا اللقاء مع مجلس الفيدرالية يمثل نقطة انطلاق جديدة لإثراء علاقات الصداقة, بما يفتح آفاقا تتجاوز بها الإطار الرسمي إلي إطار شعبي برلماني. ثانيا: إن العلاقات المصرية الروسية ذات الخمسة والسبعين عاما تتمتع بخصوصية عميقة, تتجلي دوما في وقت الأزمات والشدائد, ففي إطار هذه الخصوصية قدمت روسيا يد العون لتستعيد مصر أرضها المحتلة, ووقفت إلي جانبها في معركة البناء والتعمير, ولن ننسي مساعدتها لنا في بناء السد العالي, وستظل المواقف التاريخية لروسيا الداعمة لنا, عالقة في أذهان الشعب المصري جيلا بعد جيل. ثالثا: إن التنامي المتزايد في علاقات التعاون الثنائي, الذي برز واضحا في السنوات الخمس الأخيرة دليل علي عمقها ورسوخها, مما أفضي إلي إطلاق الحوار الإستراتيجي بين البلدين, ونمو حركة التجارة إلي أرقام غير مسبوقة. رابعا: إن المشروعات الكبري التي جري الاتفاق عليها بين القاهرةوموسكو, وهناك مؤشرات تؤكد الانتهاء منها خلال الأعوام المقبلة, ستغدو علامات مضيئة جديدة في مسيرة التعاون الثنائي, وصرحا ضخما في بنيان شراكة ممتدة, في إشارة من الرئيس إلي محطة الطاقة النووية بالضبعة, والمنطقة الصناعية الروسية في شرق قناة السويس. خامسا: إن ما يتم تدشينه من مشروعات عملاقة في مصر يحتاج, في إطار علاقاتنا وشراكتنا, إلي خبرات واستثمارات روسيا الصديقة, والباب سيبقي في مصر مفتوحا أمام المستثمر الروسي, للاستفادة من مزايا السوق المصرية كبوابة تجارية استثمارية عربيا وإفريقيا وآسيويا. سادسا: إن الروح الإيجابية التي تسود علاقة القاهرةوموسكو, هي العامل الأهم في نجاح الجهود المشتركة, التي توجت باستئناف حركة الطيران المباشر من موسكو إلي القاهرة, وفي هذا السياق, أعرب الرئيس عن ثقته في عودة الطيران قريبا بين المدن الروسية والمصرية الأخري, لتستعيد السياحة تدفقها من جانب الروس الذين طالما لاقوا كل ترحاب وتقدير ومودة في مصر بلدهم الثاني. سابعا: إن ثورة30 يونيو, كشفت للعالم أجمع حقيقة الشعب المصري وصلابته, وقوة إرادته, وأظهرت صداقة الدول الداعمة لمواقفها, في إطار التطورات المتلاحقة التي شهدتها مصر بعد30 يونيو, ولعل في مقدمة هذا نجاح المصريين بإرادتهم وتماسكهم, ووقوفهم خلف قيادتهم الحكيمة في استعادة أمنهم واستقرارهم, والحفاظ علي كيان دولتهم العريقة, ومؤسساتها الوطنية, واستطاعوا كذلك وهذا هو الأهم تجنيب بلادهم نيران الفوضي التي استشرت في دول أخري. ثامنا: إن مصر تمضي في تنفيذ إصلاحات اقتصادية جريئة, أصبح بمقتضاها ما تحقق من إنجازات واقعا حيا, شاهدا علي قدرة الشعب المصري علي تخطي الصعاب, والعبور إلي المستقبل, واثقا ومتفائلا, وهو يستمد ذلك من مخزونه الحضاري العميق, ففرض إرادته, وأنقذ هويته, وحقق قفزات هائلة علي صعيد تمكين الشباب والمرأة. تاسعا: إن تعزيز مستوي التنسيق والتواصل مع روسيا ضرورة تفرضها المصالح المشتركة في مواجهة التحديات التي يتصدرها خطر الإرهاب وتمدده, وموقف مصر محدد وواضح في أن مواجهة هذا الخطر يستوجب مواجهة جماعية من منظور شامل, يضع في اعتباره الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية, إضافة إلي الإجراءات العسكرية والأمنية. عاشرا: إن مصر طرحت وتنفذ مبادرتها في مواجهة التطرف بتجديد الخطاب الديني, بما يصحح الأفكار المغلوطة, والتفاسير الملتوية, ويبقي دور الأزهر في هذا السياق حاضرا بقوة, كمنارة للإسلام المعتدل الذي يعلي من قيم التسامح وقبول الآخر, ويضاف إلي ذلك بالدرجة الأولي ما حققته القوات المسلحة في إطار العملية الشاملة سيناء2018 من حصار بؤر الإرهاب والسيطرة عليها بشكل كامل, مع اتخاذ التدابير اللازمة لحماية أمن مصر وحدودها. حادي عشر: إن الإرهاب لم يعد هو الخطر الوحيد علي الإنسانية, بل إن تفكيك الدولة الوطنية تحت وطأة الأزمات المتلاحقة يشكل خطرا وجوديا علي أمن المنطقة والعالم كله, ولا تزال أزمات المنطقة العربية تتلاحق إضافة إلي أقدم وأعقد أزمة في التاريخ المعاصر القضية الفلسطينية هذا التلاحق في الأزمات يؤجج الصراعات الطائفية, ليخيم شبح تفكك وانقسام الدولة ومؤسساتها الوطنية, ليفرض مزيدا من التحديات, ويلزمنا جميعا بتسخير الطاقات لمواجهة الأفكار المشتركة. ثاني عشر: كعادة الرئيس, وانطلاقا من عمق رؤيته للأحداث الدولية والإقليمية, جاءت كلماته شديدة الوضوح حين أكد أن الجميع في خندق واحد, وليس هناك أحد بمنأي عن الخطر, وليس بمقدور أحد أن يتخطي الأزمات بمنطق الفرادي, ومن هنا فإن المجتمع الدولي كافة مطالب بتحمل كل مسئولياته, عبر الإسراع بتحقيق التسوية السلمية للنزاعات, والتصدي بحزم لمن يقف وراء الإرهاب. ثالث عشر: إن الوصول إلي مستقبل أفضل للجميع لن يتحقق إلا بمزيد من التعاون, وتنسيق المواقف, في ضوء احترام وتقدير متبادل, مع تفهم الاختلاف والتنوع والالتزام بالقانون الدولي, وبمبادئ الأممالمتحدة, التي يجب أن تظل كيانا جامعا يقود لنظام دولي فعال يسوده الأمن والسلام, ويفضي إلي تحقيق التنمية والرخاء, وتلبية تطلعات الشعوب. رابع عشر: إن الخطر الذي يزيد من حدة الأزمات الراهنة, هو ما يشهده العالم من تصاعد حدة الاستقطاب, الذي سيؤدي في النهاية إلي تفاقم الواقع المضطرب من حولنا. وهنا كان الرئيس السيسي شديد الصراحة والحزم, حيث أكد أنه لم يعد هناك مجال للاصطفاف في محاور, لفرض رؤي بعينها, أو الانضمام لتكتلات, تنطوي علي نفسها مدعية أن المخاطر لا تعنيها, وأعتقد أن الرئيس أراد أن يبعث برسالة تحذير واضحة مفادها أنه آن الأوان, ليطوي هؤلاء صفحات ثبت واقعيا أن رؤاهم فيها خاطئة, لأن المخاطر والتحديات حين تأتي لن تستثني أحدا, والحل أن يدرك الجميع أننا في قارب واحد, وعلينا أن نعمل جادين مخلصين علي الوصول إلي شاطئ الأمن والاستقرار. وقبيل لقاء القمة المرتقبة, وصل الرئيس عبدالفتاح السيسي إلي مدينة سوتشي الروسية مساء أمس, واصطحبه الرئيس بوتين في جولة علي كورنيش سوتشي, في حوار هادئ خارج الأطر الرسمية, ثم أقام الرئيس الروسي مأدبة عشاء غير رسمية تكريما للرئيس السيسي فور وصوله إلي المدينة التي تحتضن القمة. خامس عشر: إن النزاعات والصراعات الداخلية, لا مجال لمواجهتها بحلول جزئية, والحل, كما يؤكد الرئيس السيسي, في المعالجة الشاملة التي تحفظ وحدة الدول وسيادتها, وسلامتها الإقليمية, ويجمع شمل أبناء الوطن الواحد, فيفتح الباب الذي يسمح بإعادة البناء والإعمار, ويضمن عدم إفلات المفسدين والمخربين والإرهابيين من المحاسبة. سادس عشر: ولم يرد الرئيس أن يختتم كلمته التاريخية دون أن يعيد علي مسامع العالم أجمع أن الأزمات العربية لن تحل من خارج إطارها العربي, في ضوء مظلة أممية, فسوريا لا بديل لمواجهة أزمتها إلا بتحريك العملية السياسية التي ترعاها الأممالمتحدة بشكل يحفظ وحدة هذا البلد ويلبي طموحات أبنائه, والالتزام بالحل السياسي طريق وحيد لمواجهة الأوضاع في ليبيا وتوحيد مؤسستها العسكرية, لتتمكن من القيام بمهامها بفاعلية, متمثلة في الدفاع عن ليبيا, وهو مسار تقوم فيه مصر بدور محوري. سابع عشر: إن روسيا ستظل الصديق الوفي الذي يمكن الاعتماد عليه, هكذا أنهي الرئيس كلمته, مؤكدا أن ذلك نتاج تقارب الرؤي والدعم المتبادل في مختلف المحافل الدولية, والتنسيق المستمر, وصولا للسبل المثلي لمواجهة التحديات المشتركة. ومن هنا, من مدينة سوتشي الروسية, أتابع عن قرب ما يترقبه العالم اليوم في قمة ذات سمة خاصة تحقق نقلة جديدة في مستوي التعاون والتنسيق المشترك بين زعيمين حريصين علي بناء غد أفضل, لبلدين تجمعهما روابط مشتركة, لم تؤثر فيها أحداث عابرة في فترات مضت, وطوت رؤاها المشتركة صفحاتها, لتفتح صفحات أكثر تفاؤلا, وأشد ثباتا في علاقات قائمة علي ثقة في قدرات بلدين كبيرين, يقودهما السيسي وبوتين, كزعيمين من طراز خاص.. هكذا تثبت الأحداث والمواقف دوما.