هل يعاني عرض ستوكهولم الشهير الذي يجعل الضحية تتعاطف مع جلادها؟, أم أنه نفس ما تشعر به الشعوب المقموعة تجاه المحتل الأجنبي. بينما كنت أقف علي الإفريز أنتظر توقف تدفق السيارات حتي أعبر الطريق, سمعت من يصيح.. يعني هي أمريكا دي بقت البوصلة بتاعتنا؟.. نظرت خلفي لأجد بائع صحف يكلم من بدا من هيئته أنه حارس إحدي البنايات, وكانت تلك الكلمات نهاية حوار طال فاتني أغلبه. وعلي طريقة تداعي الذكريات, تذكرت كلمات صديقة عائدة من بلاد العم سام تفوهت بها أثناء زيارتها الأخيرة لمصر, كانت تري أن الثقافة الأمريكية ما هي إلا زجاجة من سائل( الكلور) الفعال, انسكبت فوق قطعة قماش زاهية الألوان, فقط لتطمس معالمها وتوحد لونها في لحظة.. طبعا لا داعي لأن أذكر أن قطعة القماش المذكورة هي العالم بقاراته ودوله وقومياته المختلفة.. أعرف سيدة شابة تمقت أمريكا والسياسة الأمريكية كما ينبغي للمقت أن يكون, وتري في الولاياتالمتحدة عدوا للعرب والإسلام, وفي أي مناقشة لابد أن تقحم كلمة ما تحول مجري الحديث للسياسة الخارجية, حتي تحظي بفرصة استعراض وجهة نظرها في ذلك البلد المقيت. ورغم هذا لاتجد أي تناقض بين كلامها وبين إصرارها علي إلحاق ولديها بمدرسة أمريكية شهيرة, لدرجة أنها توسطت لدي كل من تعرفهم حتي تحصل علي توصية ترفع نسبة قبول الأولاد. الأدهي أن اصطحاب الصغيرين إلي أحد محلات الوجبات السريعة الأمريكية أصبح عادة أسبوعية تحرص عليها.. هناك يطلب الطفلان وجبات تأتي ومعها دمي مصنوعة علي شكل أبطال الأفلام الهوليوودية. هذه السيدة الكارهة لأمريكا لاتعرف أن( الثقافة) هي السلاح الفتاك الذي تشهره أمريكا في وجه الجميع, كلنا نسب أمريكا وسياستها طوال الوقت, حتي ونحن نتناول الوجبات الأمريكية ونشاهد الأفلام المنتجه في هوليوود. وبينما هناك قليلون يحاولون الحفاظ علي ثقافتهم الخاصة وقوميتهم, نجد الغالبية العظمي حول العالم يستمتعون بتبني الثقافة الأمريكية. لقد ظل( ميكي ماوس) وهو رمز ثقافي أمريكي صارخ ممنوعا من دخول الصين لعدة عقود, لكنه نجح في السنوات الأخيرة في التسلل إلي هناك عنوة رغما عن الأصوات المعارضة لسيادة النمط الأمريكي, إدراكا منهم أن الثقافة الأمريكية ليست بريئة تماما, فما من دولة غزتها تلك الثقافة إلا وقامت بإزاحة ثقافتها المحلية إلي الحافة وحلت محلها. لقد سيطرت باريس وروما علي صناعة( الموضة) في العالم لفترة طويلة, قبل أن تقدم أمريكا نموذجا جديدا للأزياء لاقي إقبالا حول العالم, حيث لا يعتمد هذا النموذج الأناقة كشرط, كما أنه غير بعيد عن الذوق العام للطبقات الأدني التي تشكل الغالبية العظمي من سكان العالم.. وفجأة انتشرت الطريقة الأمريكية في ارتداء الملابس كما تنتشر حبوب اللقاح مع هبوب رياح الربيع مسببة مرضا مزعجا هو الرمد الربيعي.. الكل يتسابقون علي ارتداء السراويل المصنوعة من قماش الجينز الأزرق السميك, ومن لايرتدونه يتمنون لو فعلوا.. الكل يرتدون ملابس متشابهة لا فارق بين مصري وأمريكي وفنلندي, لا فارق بين طبقة اجتماعية وأخري, لا فارق بين غني أو فقير.. ذكرا أو أنثي.. ولا أحد يقف ليسأل نفسه هل يناسبني هذا النوع من الملابس؟. أليس من الأفضل للبلاد الحارة ارتداء ملابس مصنوعة من الكتان الخفيف مثلا؟ لا أحد يهتم بتوجيه مثل تلك الأسئلة ولا الرد عليها.. فالكل مشغولون بارتداء الفانلات الملونة فوق السراويل الجينز مع الكاسكيت أو القلنسوة الصوفية الشهيرة.. وفي السينما لعبت الأفلام الأمريكية عبر تاريخها دورا لا يستهان به في نشر وترسيخ الثقافة الأمريكية. لقد ظلت بريطانيا تنتج أفلام الرعب ردحا من الزمان, إلي أن قررت هوليود الاستئثار بهذا النشاط, فقدمت فيلمين رهيبين بحق هما( طارد الأرواح الشريرة) و( طفل روزماري), فجأة صارت الجماهير حول العالم تميل بشكل أكبر للرعب الأمريكي ذي الميزانيات الضخمة والمؤثرات البارعة, وعزفت عن الرعب البريطاني رخيص التكاليف, ولم يعد هناك من يخاف الوحوش المتخشبة التي تزأر في عدسة الكاميرا والتي زخرت بها الأفلام البريطانية. وولدت في هوليوود تيمة جديدة هي هل جارك هو جارك حقا؟ وهي تيمة مرعبة لايستهان بها ومعناها واضح: هل يأتي اليوم الذي يتحول فيه كل من حولك إلي شيوعيين؟.. لماذا عادت تلك التيمة إلي الظهور بعد11 سبتمبر؟.. الإجابة كما خمنتها أنت بالضبط. كنت أجري حوارا مع كاتب اشتهر بالكتابة للشباب, وتفرع الحديث, وذكرت أمامه رأيي في الدور الذي تلعبه الأفلام الهوليوودية في نشر الثقافة الأمريكية, لكنه سخر بشدة من كلامي وسألني في تحد: هل تظنين حقا أن أمريكا تنتج أفلاما موجهة كي تغزو العالم؟, إنك ساذجة يا عزيزتي, فأمريكا تحكم سيطرتها علي العالم بالفعل ولا تحتاج إلي ذلك؟ جاوبته بسؤال آخر هو: وكيف سيطرت علي العالم في رأيك إن لم يكن بفرض ثقافتها؟. ضحك طويلا لسبب لا أدريه, وقال: هذه من طبائع الأمور.! كاتب تباع قصصه بالملايين يؤمن بأن سيطرة أمريكا علي العالم من طبائع الأمور.. هل يعاني عرض ستوكهولم الشهير الذي يجعل الضحية تتعاطف مع جلادها؟, أم أنه نفس ما تشعر به الشعوب المقموعة تجاه المحتل الأجنبي, وما يشعر به الفقير تجاه الثري والأدني تجاه الأعلي. لقد أدركت الورطة التي نحن فيها.. أم أنني أنا التي تعاني من عقدة الاضطهاد, وفعلا غزو الثقافة الأمريكية من طبائع الأمور؟