نجحت دبلوماسية المسارات التي اتبعها بوتين في تقسيم دوافع الصراع في سوريا إلي ثلاث مسارات رئيسية, الأول: مسار السلاح الكيماوي الذي حدده قرار مجلس الأمن الدولي2118, والثاني: مسار الحرب علي الإرهاب, والثالث: مسار مفاوضات الحل السياسي في آستانة وسوتشي. وانطلاقا من المسار السياسي للأزمة السورية فقد وقعت روسيا وتركيا وإيران في آستانا في مايو2017 مذكرة تقضي بإنشاء مناطق تخفيف التصعيد في سوريا- وفي محيطها مناطق أمنية في8 من أصل14 محافظة سورية تتواجد فيها فصائل المعارضة- وترتكز المناطق علي أربع: الأولي في منطقة تضم أجزاء من محافظتي درعا والقنيطرة( تمتد حتي الحدود مع الأردن), وأخري في منطقة الغوطة الشرقيةلدمشق, والثالثة في منطقة تضم أجزاء من محافظة حمص وسط سوريا, والرابعة بالمنطقة التي تضم محافظة إدلب شمالي سوريا. وعلي الرغم من أن الخبرات التاريخية لإقامة المناطق الآمنة قد أفضت إلي حقيقة مفادها أن المناطق الآمنة نادرا ما تكون آمنة, خاصة في ظل عدد من التحديات التي تعد عائقا لنجاح تلك المناطق وممراتها الآمنة, أهمها ما يتمثل في عدم التوافق الحاسم ما بين أطراف الصراع لتباين أهدافهم, والاستثناءات المطبقة علي بعض الفصائل المسلحة في اتفاقيات الهدنة وذلك مثل قرار مجلس الأمن رقم2401 الخاص بتطبيق الهدنة علي كل الأراضي السورية ويستثني منه تنظيمات داعش والقاعدة وجبهه النصرة, مما يضعنا أمام تفسيرات متناقضة تهدد التطبيق التام لوقف إطلاق النار, فضلا عن العوارض الإنسانية والمتمثلة في فرض النزوح الإجباري. ولكن مع وجود رغبة حقيقية لدي القوي الدولية والإقليمية الرئيسية ذات التأثير المباشر في الصراع السوري, وإلي جانب التوافق الدولي والإقليمي بشأن الإجراءات اللازمة لحماية اللاجئين والمدنيين الفارين من تداعيات الصراع, أوجد ذلك مساحة للتوصل لاتفاقيات هدنة في تلك المناطق وفي إخلائها من العناصر والجماعات بهدف تسهيل عودة اللاجئين والنازحين إليها. يبقي بتلك النقطة تساؤل حول الوضع المستقبلي لديموجرافية المناطق الآمنة, فلا يزال هناك تخوف أمني من أن تدعم تلك المناطق فكرة التقسيم, وذلك بالنظر لخريطة تواجد تلك المناطق ومدي استمراريتها زمنيا, وإلي أي مدي ستستمر الأطراف الدولية في إدارتها, فمن الممكن أن تأخذ المعارضة المسلحة هذه الفرصة للاستفادة من المناطق الآمنة كملاذ, ولإعادة التجييش, خاصة أنه يفترض ألا يكون للنظام السوري أي دور في تلك المنطقة. كذلك, التساؤل الأهم هو في أي وقت سيكون من الآمن تفكيك هذه المناطق حال إقامتها؟ لأنه إذا أصبحت ملاذا لمعارضي النظام, فعند تفكيكها قد تتحول إلي ما يشبه الكانتونات المعارضة مما قد يعمق من نزاعات الهوية وأزمات الأقلمة والاقتتال بالداخل السوري. انطلاقا من التخوف المستقبلي لوضعية المناطق الآمنة وما قد تدعمة من فكرة التقسيم الديموجرافي استنادا للهوية المذهبية والطائفية. تأتي إشكالية إخلاء المدن واعادة ترتيب الديموجرافية السورية بدأ من عام2013, وذلك بما يضمن تحقيق هدفين رئيسيين: الأول, تمكين سيطرة نظام الأسد علي الشريط الواصل بين دمشق والساحل باعتباره مركز الثقل السياسي. والثاني, تموضع حزب الله في لبنان وحلفائه من خلال تشكيل منطقة عازلة علي الحدود اللبنانية السورية تحميه من الارتدادات السلبية للصراع الدائر في سوريا. وتعرف اتفاقيات الإخلاء بأنها عملية تفاوضية ذات بعد ديموجرافي تجري بين ممثلي النظام والأطراف المحلية بوساطة أممية, يتمخض عنها استعادة النظام للمناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة علاوة علي تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين, ولم يكن اتفاق إخلاء المدن الأربع في أبريل2017 هو الأول من نوعه, الذي اتفق من خلاله مندوبون عن هيئة تحرير الشام وأحرار الشام من جهة, وممثلون عن إيران من جهة أخري, إلي تفريغ بلدة مضايا ومدينة الزبداني في ريف دمشق من مقاتليها ومن يرغب بالخروج من سكانها, مقابل تفريغ بلدتي كفريا والفوعة المواليتين للنظام بريف إدلب الشمالي, بالإضافة إلي مخيم اليرموك في جنوبدمشق. فقد بدأت أولي اتفاقيات الإخلاء في عام2012, لتسجل بنهاية عام2016(7 اتفاقيات), تشتمل مناطق: تلكلخ, حمص القديمة, الحجر الأسود, الزبداني, حي القدم, قريتي قزحل وأم القصب, وداريا. ومن الملاحظ بخريطة الإخلاء والتي جاءت تزامنا مع اتفاقيات المصالحات التي كان لنظام الأسد بها اليد العليا سياسيا وعسكريا مقارنة بوضعية المعارضة وأطياف المقاومة آنذاك, أن محافظات حمص وحماة وحلب وريف دمشق الأكثر استهدافا, وهو ما يؤشر نحو أهداف الأسد وحلفائه لتعزيز سيطرتهم من خلال تصفية مناطق تمركز المعارضة, وإجراء تغيير ديموجرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه بكافة الترتيبات المستقبلية لسوريا. اتساقا مع ما سبق توضيحه, فمن المتوقع أن تتعاظم التأثيرات المستقبلية الناجمة عن اتفاقيات الإخلاء المتعددة ومخرجات إستراتيجية المناطق الآمنة في ظل استمرار تأزم الأوضاع في سوريا, ومنها: تآكل الموقف التفاوضي للمعارضة مع خسارتها لمواقعها في محيط العاصمة. إحداث تغير ديموجرافي مقصود من خلال استبدال مكون محلي أصيل بمكونات مجتمعية متشيعة من مناطق أخري, بما يؤثر علي المعادلات الأمنية والسياسية لسوريا بالمستقبل, وهو ما يفسر ازدياد عمليات التشيع التي تشهدها مناطق ريف حلب, لا سيما بعد سيطرة النظام السوري والميليشيات المدعومة من إيران عليها. فقد حولت الكثير من المساجد في ريف حلب إلي حسينيات, بما يعني أن الهدف هو تغيير معالم المدن العربية, ثقافيا واجتماعيا وديموجرافيا, بحيث يتم استقطاع الأراضي العربية لصالح سكان إيرانيين وعناصر أخري من الميليشيات الشيعية. تعزيز تمثيل نظام الأسد للدولة السورية من خلال إعادة الهندسة الاجتماعية عبر تقسيم سوريا إلي أقاليم وإفراغ المناطق الاستراتيجية من سكانها المحليين, مثل القصير, وحمص, وحلب, وداريا, ومضايا, والمعضمية. استمرارعسكرة المساعدات الإنسانية واستخدامها كسلاح لخدمة أجندات أطراف الصراع, وهو ما يعمق الكراهية بين المدنيين من جهة, والفصائل المسلحة والنظام السوري والتنظيمات الإرهابية من جهه أخري. تأجيج التوترات الداخلية بين الفصائل المسلحة, وذلك كالتوتر بين القوي المسلحة المعارضة ووحدات الحماية الكردية, لا سيما بعد التنسيق بين القوات النظامية ووحدات الحماية الكردية في الهجوم علي أحياء حلب الشرقية, فضلا عن تعاونهم في السيطرة علي منطقة الكاستيلو, وقطع طرق الإمداد لحلب عدة مرات.