تمثل القارة الأفريقية من منظور الأمن القومي المصري أحد أهم دوائر الحركة الأساسية للسياسة الخارجية المصرية, فمصر بحكم الموقع وحقائق الجغرافيا والتاريخ دولة أفريقية قبل أن تكون عربية, كما أنها تقع علي مفترق طرق بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا وهو ما يضفي عليها مسحة من عبقرية المكان, فإذا كانت العروبة بالنسبة لمصر هي اللسان وكان الدين هو الوجدان فإن أفريقيا هي البنيان. ولعل الانتماء المصري لأفريقيا وارتباط مصالحها وأمنها القومي بالقارة يفرض علي مصر متابعة ما يجري علي أرض أفريقيا والمشاركة الفاعلة في صنع حاضرها وبناء مستقبلها من منطلق الأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي من ناحية أخري وعلي أساس الالتزام بمبادئ وأهداف الاتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية والأقليمية التي تتمتع مصر بعضويتها. وعلي الرغم من هذه الحقائق التي لا يمكن تجاهلها إلا أن الدور المصري في أفريقيا قد اعتراه الضعف منذ تسعينيات القرن المنصرم. وتجلي ذلك في جوانب عديدة أهمها: تشكيك الأفارقة في انتماء مصر للقارة, والتعامل معها باعتبارها دولة عربية أو شرق أوسطية, وعدم قدرتها علي استضافة أي مقر من مقرات الأجهزة الرئيسة للاتحاد الأفريقي, أو تأمين فوز مواطنيها بمناصب قيادية داخل الاتحاد, رغم كونها واحدة من الدول الخمس الكبار المساهمة في موازنته, وتدني حجم الاستثمار والتجارة البينية بين مصر ودول أفريقيا جنوب الصحراء, وتوتر العلاقات بينها وبين العديد من دول منابع النيل. ولعل انحسار الدور المصري في القارة يعود إلي عدة عوامل. أبرزها غياب الرؤية الإستراتيجية, والتحرك بأسلوب رد الفعل والتكتيك المؤقت, وضعف تمثيل مصر في الفعاليات الأفريقية, إلي ما دون المستوي الرئاسي في أغلب الأحوال, وعدم انخراطها بشكل فاعل في جهود تسوية الصراعات, وعدم تنفيذ معظم اتفاقيات التعاون مع الدول الأفريقية, وتصاعد أدوار القوي المنافسة من داخل القارة وخارجها. لذا سعت مصر لاستعادة مكانتها الإقليمية في أفريقيا خلال الفترة الماضية خاصة بعدما طالت التهديدات النابعة من القارة مصالحها المباشرة. هنا يمكن القول أن القيادة السياسية المصرية أدركت ضرورة تفعيل الدور المصري في أفريقيا. فكانت القارة حاضرة بوضوح في البرنامج الانتخابي للرئيس السيسي. وتضمن دستور2014 نصوصا تؤكد البعد الأفريقي للهوية المصرية, ومحورية نهر النيل كسبب لحياة المصريين. وتم استحداث لجنة للشئون الأفريقية بمجلس النواب, وتخصيص قطاع للشئون الأفريقية بمعظم الوزارات والمؤسسات الحكومية, وإنشاء الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية, كآلية لدعم القدرات البشرية بأفريقيا. وقد توج هذا الاهتمام بصياغة خطة للتحرك الإستراتيجي المصري في أفريقيا علي كل الأصعدة, انطلاقا من خطاب سياسي جديد يعلي من شأن قضايا السلام والتنمية, ويوظف كل أدوات القوة الصلبة والناعمة, علي أساس مبدأ المكسب للجميع. في هذا الإطار, كانت أولي الجولات الخارجية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعد تقلده الرئاسة من نصيب القارة الأفريقية, حيث زار الجزائر والسودان, وشارك في القمة الثالثة والعشرين لمؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي بغينيا الاستوائية, ليصبح هذا هو دأب الرئيس في القمم اللاحقة للاتحاد. فضلا عن حضوره للفعاليات الأفريقية الأخري, وآخرها قمة دول حوض النيل في عنتيبي بأوغندا, والقمة الألمانية الأفريقية خلال العام.2017 وقد بلغ نصيب أفريقيا من الزيارات الخارجية للرئيس حتي أغسطس2017 نحو30%, وذلك بواقع21 زيارة من إجمالي69 زيارة. وعلي المسار ذاته جاءت الجولة الأفريقية التي قام بها الرئيس والتي شملت أربع دول هي تنزانيا ورواندا والجابون وتشاد كدلالة واضحة علي تنامي الاهتمام المصري بعمقها الأفريقي, والتي تعد خطوة تكميلية لخطوات سابقة تستهدف إعادة الدولة المصرية إلي قلب التفاعلات في القارة السمراء, انطلاقا من ثوابت تفرضها معطيات الجغرافيا والتاريخ, ومتغيرات تستوجب تعزيز المصالح المصرية بالقارة, وطموح مشروع في استعادة الدور القيادي, عندما كانت القاهرة محورا أساسيا في تصفية الاستعمار, ودعم حركات التحرر الوطني, ومناهضة سياسة الفصل العنصري, وتعزيز جهود الوحدة الأفريقية. ويمكن القول إن تلك الدول الأربع اختيرت بعناية فائقة, فتنزانيا تجمع بين الانتماء لإقليم حوض النيل والقرن الأفريقي أيضا. كما أنه لم يزرها أي رئيس مصري منذ.1968 فيما تمارس رواندا تأثيرا سياسيا كبيرا في حوض النيل الاستوائي. كما أنها تجسد نموذجا فريدا في المصالحة الوطنية بعد تجربة الإبادة الجماعية المريرة. أما تشاد فهي تقع علي خطوط تماس مع ليبيا وإقليم دار فور بالسودان. لذا فهي تمارس دورا مفتاحيا في إدارة وتسوية الصراعات فيهما. كما تقوم بدور فاعل في محاربة الإرهاب بإقليم الساحل الأفريقي, بالمشاركة في العملية العسكرية ضد جماعة بوكو حرام بنيجيريا. وبالنسبة للجابون فهي إحدي القلاع النفطية بإقليم وسط أفريقيا, وبالتالي تبدو أهمية التعاون الاقتصادي معها, حيث يعتبر السيسي هو أول رئيس مصري يقوم بزيارتها منذ استقلالها. أيضا استقبلت القاهرة أيضا المئات من الرؤساء والمسئولين الأفارقة, بمن فيهم جاكوب زوما رئيس جنوب أفريقيا, الذي كان يتزعم الاتجاه الداعي لتجميد عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي . فتمكنت مصر من استعادة عضويتها الكاملة بالاتحاد في يونيو.2014 كما استقبلت رؤساء تحرير الصحف الأفريقية, وقادة السلك الدبلوماسي الأفريقي بالقاهرة. واحتضنت شرم الشيخ العديد من الفعاليات الأفريقية وأهمها: قمة التكتلات الإقليمية الثلاث( سادك, كوميسا, إياك) في يونيو2015, وذلك لبحث إقامة منطقة تجارة حرة بينها, وقمة الاستثمار في إطار كوميسا في مارس2016, واجتماع وزراء دفاع دول الساحل والصحراء في أبريل2016, حيث اقترحت مصر إنشاء واستضافة مركز الساحل والصحراء لمكافحة الإرهاب. وتوالت المبادرات المصرية في أفريقيا بعد ذلك, فطالبت بتفعيل القوة الأفريقية الجاهزة للانتشار السريع كذراع أمني للاتحاد الأفريقي, لتكون بديلا عن التدخلات الأجنبية في شئون القارة, وكذا صياغة نظام لأمن البحر الأحمر, علي محور عربي أفريقي, وإنشاء مركز لإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراعات في إطار الاتحاد الأفريقي, وإقامة طريق بري للربط بين مصر ودول شرق أفريقيا, وإنشاء ممر ملاحي يربط بين البحر المتوسط وبحيرة فيكتوريا. لقد حققت التحركات المصرية كثيرا من الإيجابيات, فأيد الاتحاد الأفريقي حصول مصر علي مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي, كممثل للقارة خلال عامي2016 و.2017 وحصلت مصر علي عضوية مجلس السلم والأمن الأفريقي. وتولت رئاسة لجنة التغير المناخي بالاتحاد الأفريقي. كما أيد الأفارقة جهود مصر للإصلاح الاقتصادي المصري ومكافحة الإرهاب, وذلك عبر المشاركة في المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ عام2015 والاحتفال بافتتاح قناة السويس الجديدة, وعقد جلسات برلمان عموم أفريقيا بشرم الشيخ في أكتوبر.2016 بالرغم من ذلك, لم يبارح القلق عقول المصريين بشأن أزمة سد النهضة, وتداعياتها علي الأمن المائي المصري. بل إن أغلبهم يربط بين نجاح السياسة المصرية في القارة, وبين تسوية هذه الأزمة, حيث إنهم يمنحونها الأولية علي قضايا الأمن والاقتصاد, مؤكدين أن هذا الخطر الذي يأتي من الجنوب يفوق مخاطر الإرهاب القادم من الشرق والغرب معا.