في مرسمه بالزمالك التقيت به قبل أيام قليلة من إقامة معرضه المقام الآن بالقاهرة الجديدة, تحاورنا بعد أن سمح لي بمصاحبته إلي صومعته أو الغرفة التي اعتاد أن يرسم فيهاليخص الأهرام المسائي بحوار مهم عن فنه والجمال والتذوق الفني والتجريدية التي تحير الكثيرين من الجمهور العربي! وآرائه حول العديد من القضايا الفنية. قلت له لا تقدم علي إقامة معرض جديد إلا لو كان لديك ما هوجديد, وبالفعل تستقبلنا الأعمال التي سيضمها معرضك ب طلة مختلفة إذا جاز التعبير, قل لناكيف يكون التجديد في إطار التجريد الذي لا يعرف التفاصيل؟!أجاب: أنا رسام تجريدي وهذا طريقي في الفن, بدأت قبل ذلك مشخصا أي قدمت فنا تأثيريا وانطباعيا, ومررت بمراحل عديدة, إلا أن ما تواءم مع روحي وما بداخلي, هو التجريد, لأنه يتعرج مع المطلق, والتجريد عملية موسيقي تري بالعين, وفي الوقت نفسه أعتمد فيه علي ايقاع اللون والخط ومفاجأة التكوين, ولاشك أن فنان التجريد يبقي فنان تجريد كما هو, لكن الجديد هو التناول نفسه, أي من أي نقطة هو بدأ وانطلق منها؟أحيانا يكون ذلك من خلال شكل صغير جدا وثانوي استخدمه في إحدي لوحاته, يصبح محوريا في معرض آخر, والفنان يمر بمراحل, كتلك التي يمر بها الانسان بشكل عام, أي أنه يتطور, ولا يبقي علي حال واحد, هو يتغير, ويتغيرمعه تفكيره وتتغير بعض ملامحه, وعلي الرغم من تغيره هذا فأنه يبقي انسانا, وهكذا التجريد يبقي محتفظا بقيمة ما موجودة ومستمرة, ولذلك فان من يري اللوحات سيشعر أنها جديدة سألته: لكن يبقي السؤال ما هو هذا الجديد؟ ماهي ملامحه في التجريدية بشكل عام؟ يشير إلي لوحاته قائلا الجديد يكون دائما في روحها, إيقاعاتها, وحتي الألوان الصريحة, علي سبيل المثال إن الألوان تظل هي الألوان, لكن تختلف درجاتها بمعني أن اللون من الممكن أن يكون صريحا بنسبة100% أو80% أو حتي فيها مسحة من اللون الأساسي الذي استخدمه, وهو ما يتم وفق المشاعر, لأن التجريد مضمونه وجداني بحت لا أدبي, ولذلك لا تحاول أن تفهم التجريدية لأنها لا تفهم إنما تحس, فأنت إذا ما بحثت عن التجديد عند الموسيقار باعتبار أن التجريد هو موسيقي بصرية فإنك ستجده عند موسيقار مثل بيتهوفن ينحصر في أن كل عمل موسيقي جديد, يأخذ لحنا أو طابعا جديدا, لكنه يستخدم الآلات نفسها, ويحتفظ بالشخصية والانطباعات نفسها, وعندما تسمعه تستطيع أن تفرق بينه وبين أي موسيقار آخر مثل تشايكوفسكي أو باخ, أي أن أسلوبه يبقي مستمرا كما هو, لكنه يجدد فيه فقط, وهكذا التجريد الذي يتعامل مع المشاعر, والمشاعر بطبيعتها متغيرة, ومن هنا يكمن التجديد في التجريد سألته بجرأة اتجهت للتجريدية, وبجرأة وثبات أكبر تمسكت بها علي الرغم أن ذوق المتلقي العربي يميل اكثر للتشخيصية والواقعية, ويبحث في لوحاتها عن المعني, بل ربما جمال ملامح الشخوص! ألم يزعجك أو يحبطك عدم تواصله أو فهمه للتجريدية بشكل كاف؟ يجيبني بثقة شديدة قائلا بالعكس!إن الحكم علي التجريد أسهل بكثير من التشخيص!لأن المتلقي لو نظر بدون حكم مسبق فانه سيجد نفسه قد تواصل مع العمل بسرعة, فالأمر يكمن في إيقاعات سريعة أو بطيئة أوقوية تقابل روح المتلقي, الذي يشاهدها ويجد نفسه فيها, أكثر من الأعمال الأخري. ماوراء الأشياء ويشير حسني إلي لوحة الأربعينات وهي تشخيصية في مرسمه مضيفا مثل هذه اللوحة, عندما ينظر إليها المشاهد, فإنه يعجب بالعائلة ونزولها من الجبل, ومعهم الماشية, لكن ذلك لا يعني أن اللوحة التجريدية التي تجاورها لا يستطيع أن يتواصل معها بسهولة أكبر, لأن الفنان المجرد يبحث عن القيمة المطلقة التي لا شكل لها وهو يحاول أن يكثف المطلقات الموجودة في الحياة مثل الزرقة, الخضرة, الإنسان ليضعه في عمل فني مختلف يتميز بالرحابة والاتساع لأن الفنان المجرد لا يمكن أن ينظر للأشياء التقليدية القريبة أمامه, إنما ينظر إلي ما وراء الأشياء, وهو ما يعطي عمقا واتساعا للوحة, ولذلك عندما يتأملها المتلقي فانه سيصطفي بروحه ويسمو بها بعيدا عن الضغوط والتفاصيل المزعجة, ليدخل في حالة تأمل وسمو بديع. وليس صحيحا أن المتلقي العربي يبتعد عن التجريدية, الدليل علي ذلك أنها أصبحت تمثل الأغلبية والأكثر سعرا في المزادات التي يشهدها العالم العربي, وأريد أن ألفت إلي أنه حتي في الواقعية هناك حداثة, والأمر يتوقف علي الأسلوب الذي يتعامل به الفنان مع المسطح, وبشكل عام للفن حسابات جميلة للغاية, وعلي المتلقي أن يشاهد كثيرا ويصبر طويلا كي يستطيع أن يتفاعل معه. مدارس مختلفة وهنا أستأذنه أن نتوقف قليلا عن الحديث, لنقترب من إحدي حوائط مرسمه, فعلي هذا الحائط تبهرك مجموعة من الروائع الفنية, ويستوقفك فيها هو أنها تنتمي إلي مدارس فنية مختلفة وبرغم ذلك تتجاور جنبا إلي جنب في تناغم جميل ونادر! حيث تتجاور لوحات محمود سعيد مع جنتليني وصلاح طاهر وراغب عياد ومنير كنعان وآدم حنين وفاروق حسني وغير ذلك, وهو ما دفعني أن أساله لا وجود للإحساس بالنفور أو النغمة النشاز.. ما السر وراء ذلك؟ قال لأن القيمة هي ما تجمع بين اللوحات المنتمية وراء المدارس والاتجاهات المختلفة, وهو ما يقودنا إلي أهمية أن نتزود بثقافة الاقتناء, فقبل أن نقبل علي شراء عمل ما لابد أن ندرك القيمة الفنية له, وأن نذهب للعمل ذي القيمة المرتفعة, وهكذا عندما أضع أعمالي بجوار بعضها البعض فإنه لن يحدث خناق بينها, لأنه حينئذ تتساوي قيمتها الفنية, بصرف النظر عن أي مدرسة تنتمي إليها حتي لو وضعت الأكثر حداثة بجوار الأعمال الكلاسيكية؟ أعود إلي حديثنا عن التجريدية فأسأله بحذر لكن كثيرين يرون في التجريدية قدرا كبيرا من السهولة في الأداء, هنا تكوين, أو بقعة لونية, وهنا خط وإبقاع.. يستقبل سؤالي بضحكة عالية وصدر رحب قائلا بل هي الأكثر صعوبة حتي من التشخيصية التي يكون أمام الفنان موضوعات كثيرة للرسم, مثل الباعة, المرأة الحزينة, الأم, والأهرامات والنيل, وغير ذلك من مناظر ومشاهد تضج بها الحياة اليومية, ويمكن رسمها, أما التجريد, فإنه يلخص مشاعره تجاه الحياة والكون نفسه عبر تكوين أو بقعة لونية كما تقولين! لأن المجرد يبحث عن القيمة المطلقة التي لا شكل لها, ويكثفها في عمل فني, ولذلك في التجريدية تظل كل لوحة مختلفة عن الأخري, والتحدي هنا كيف يمكن للوحة ما تختلف عن لوحة تجريدية اخري علي الرغم أنها تخلو من الموضوع أو التفاصيل؟!إن عليه أن يضع فيها المشاعر..فكيف يوجدها الفنان ويوصلها للمشاهد؟!أعلق علي كلامه إذن ذلك هو السر وراء إعجاب المتلقي بلوحة تجريدية وحرصه علي اقتنائها بينما لا يعجب بأخري, علي الرغم من أن التجريدية تحس ولا تفهم؟ يجيب نعم, بالإضافة إلي اختلاف الذوق الفني الشخصي لكل متلق عفوية محسوبة وذلك يقودنا إلي قضية فنية أخري, وهو في حين تولد بعض الأعمال لتموت, فإن أعمالا فنية أخري في مختلف المجالات تعيش داخلنا لمئات السنين؟! من أين لها بهذا الصمود؟! يجيبني لأنها تحمل طاقة إبداع قوية تخترق الزمان والمكان معا, تزخر بالمشاعر الحية المستمرة, والرؤية التي تبقي, لأنها تحمل الفكر والإحساس معا, ولذلك عاشت أعمال باخ, وشوبان وشكسبير, وغيرهم من المبدعين العظماء الذين اتسمت أعمالهم بذلك كله. وبعد لحظات من التأمل لإحدي لوحاته الجديدة أسأله التحرر من قيود البناء وصرامة الهندسة نعرف انه من ملامح التجريدية لكن لديك جرأة تفوق كثير من التجريديين الآخرين مثلما نري في هذا العمل, مما يدعو المتلقي دائما إلي التساؤل هل تتعمد ذلك؟ وألا تخضع أعمالك لقانون حتي لو كان مرنا؟هل يحمل ذلك بين ثناياه دعوة للتحرر من الفكر الجامد؟.. يجيب الفنان أي عمل له قانون, وبناء خاص به, وبداخله التنوع أو المفاجأة, كل هذا موجود في الحسبان, لكن في الوقت نفسه بالتأكيد لا أكون متعمدا, ولا يقظا بشكل كبير للوحة, وإلا ستخرج مبرقة وكأنها تبحلق للمتلقي, فتزعج من يتفرج عليها, إنما أنا أرسم بنصف وعي وإدراك, ونصف الوعي هو ما يجعل الفنان كما لو أنه في حلم, أو يتعامل مع أشياء غير موجودة فيوجدها, أما الإدراك فهو ما يجعله يقظا للقانون نفسه, والقانون مهم حتي لا تكون اللوحة عبثية, أو تخلو من الأسلوب العلمي الصحيح, والفن يصل, وينجح في التحفيز علي التأمل والتحرر من القوالب الجامدة, ولا يحتاج في ذلك إلي موصلعلي العكس من شبيه الفن الذي لا يصل للمشاهد إذن لا تخضع أعمالك للعفوية المطلقة؟ يرد نعم هي عفوية محسوبة, تخضع لإيقاع ما داخلي, وهو قد يختلف تماما بعد أن يبدأ في اللوحة عما كان قبل بدايتها, فالعمل يأتي ببعضه, دون تعمد, لأن ذلك يقتل العفوية وبراءة العمل وماذا عن مساحات الفراغ الواسعة في أعمالك الفنية؟سألته فقال الفراغ علي مسطح اللوحة مثل الطبيعة لا يوجد شيء يصدم العين, أويشغل العقل, فتدعو للتأمل والصفاء الذهني ولذلك يحب الشعراء والمفكرون الليل أكثر, ففي الليل ستائر تخفي أشياء سلبية كثيرة مثل شوشرة البصر والأذن, الأمر الذي يسمح بالتفكير والخيال بلاحدود, وبالتالي تتولد الأفكار والأحاسيس الجديدة بغزارة لكن هل النقد التشكيلي المصري يقدر التجريدية؟أسأله فيفاجئني بإجابته النقد الفني ضائع في مصر لا في التشكيل أو التجريد وحده إنما في كل المجالات الفنية والأدبية بسبب عدم التنشئة علي تذوق الجمال, والافتقار إلي الدراسة الأكاديمية!!وهي كارثة حقيقية, إذ إن ندرة النقاد تؤثر علي نشر الجمال والاقتناء وانتشار المفاهيم الخاطئة بين الجمهور, أحيانا أسمع ألبعض يقول اشتريت تابلوها جميلا علقته في الصالون!!إن الأمر ليس تابلوها شكله حلو وألوانه جاذبة, إنما هو قطعة فنية تحمل مشاعر أو أفكارا وتكنيكا, ولذلك أري دائما أن الجمال في البيوت إنما ينبع من لوحة وسجادة! أسأله لماذا لم يصل التشكيلي المصري إلي العالمية علي الرغم من وجود أسماء كبيرة قادرة علي ذلك, يجيبني التشكيلي المصري وصل للعالمية بالفعل, كثيرون لديهم لغتهم العالمية, كما أن الفنان المصري يستطيع الوقوف أمام العالم كله, ولا يمكن الإقلال من قيمته هو يثير الانبهار بالقيمة الفنية لأعماله, لكنه لم يستطع أن يخترق الدوائر الإعلامية والجاليرهات, لكن المشكلة أن الإنسان المصري في كل المجالات عنده حائط صد قوي رهيب, لا يسمح له إلا بمستوي معين من الانتشار والنجاح, هذا الحائط هوالصهيونية العالمية لقد عرضت في أشهر متاحف العالم وكتب عني أهم النقاد, وعلي الرغم من ذلك لم أصل إلي القدر الذي يناسب فني لأنه غير مسموح لي بما هو أكثر من ذلك. وأري ضرورة عودة البينالي التشكيلي المصري الدولي لأنه يكون فرصة للتعريف بفنانينا والاحتكاك الفني, وكذلك لابد من الاهتمام بإقامة معارض لهم في الخارج, والتعاون مع المؤسسات الفنية العالمية, إن الاهتمام بالموسيقيين والتشكيليين علي وجه التحديد مهم للغاية, لأنهم يقدمون لغة دولية تفهمها جميع الشعوب من مختلف الثقافات والحضارات, خاصة ان هناك حالة زخم تشكيلي واضحة في مصر كما وكيفا الآن, ومن ضمن أسبابها حالة تبني شباب الفنانين حين كنت في الوزارة والذين أصبحوا الآن فنانين معروفين, حيث لاحظت حينئذ أن هناك حالة من محدودية النشاط الفني, وهذا لا يعقل خاصة في دولة مثل مصر تقوم حضارتها القديمة علي النحت والتصوير بجانب العمارة ولذلك قمت بتحفيز الشباب, وهم الآن يتصدرون المشهد التشكيلي, وهناك حالة حراك في النشاط الفني وتحريض علي الإبداع, وأنا عندما أشاهد معارض جديدة فإن ذلك يحرضني علي الرسم أسأله عن المزادات الفنية التي أصبحت ظاهرة في بعض الدول العربية..هل هي صحية؟فيجيب نعم, وهي لا تذهب إلا للأماكن التي تتميز بجمهور يقتني ويحب الفن, ويدفع وفي دبي تجد الهنود والإماراتيين واللبنانيين والكويتيين والسوريين يدعمون فنانيهم والأغنياء, فهم يقتنون هذه الأعمال الخاصة بفنانيهم, الأمر الذي يساعد علي شهرة الفنان وارتفاع اسعار لوحاته, وأتمني أن يهتم رجال الأعمال المصريين أيضا بذلك. يحيرني هذا التذوق الفني الذي نشهده في الكثير من أنحاء العالم خاصة في أوروبا ما منبعه؟كيف يصلون إلي حب الفن والجمال إلي هذا الحد؟ يجيبني لابد من الاهتمام بالفنون التشكيلية منذ الطفولة, والاهتمام بالشعر والرواية والادب بشكل عام والفنون والموسيقي لأن الشعب هو محصلة ذلك كله هل يمكن للمتلقي أن يعجب بلوحة دون أن يفهمها؟يرد نعم بأن يحسها, فكما أوضحت علي سبيل المثال إن التجريد ليس فيه فهم انما فيه احساس, وعلي الرغم من ذلك للتجريدية جمهور واسع, ولا يكون للوحات التجريدية نفس القدر من القيمة الفنية, لكن يعجبك هذا ولا يعجبك ذاك, فإن الأمر بخلاف قدرة الفنان علي الإبداع يدخل في دائرة التذوق الفني وفي النهاية أطلب من الفنان فاروق حسني أن يجرد أو يلخص الفن في كلمة واحدة فيقول الفن..حياة وأن يلخص الحياة في كلمة فيقول الحياة..فن.