كانت جدته تحبه كثيرا, فقد سماه أبوه علي اسم جده, فاروق, وهذا الاسم منحه حصانة كبيرة, فقد كانت جدته تحب هذا الاسم لأنه يذكرها بزوجها الذي عاشت معه أحلي سنوات عمرها, وأمرها أيضا!, حتي بعد وفاته لا تزال تعيش علي ذكراه, تعيش من أجل فاروق الصغير الذي حكمت عليه الأيام باليتم, يتم الأب ويتم الأم كما كانت تقول جدته وعيناها تلمعان بالدموع وهو بين النوم واليقظة بين ذراعيها, لم تكن جدته تتركه يغادر حضنها, وعندما كبر قليلا وبدأ يتململ من حصارها له, ونصحتها الجارات أن تتركه يلعب مع أقرانه كانت تراقبه جيدا, ولا تتركه يغيب عن عينيها, لكن الأيام مضت وازدادت صحتها اعتلالا وتقدم هو في العمر والتحق بالمدرسة وأصبح من الصعب أن يبقي طول الوقت تحت عينيها, فاستسلمت للأمر الواقع, لكنها لم تكن تأكل أو تشرب وهو غائب عنها, وتقضي الوقت تراقب الشارع عبر الشرفة, ولا يرتاح قلبها إلا بعد أن تسمع صوته وقد عاد من مدرسته أو من اللعب في الشارع مع أصحابه الصغار. كان فاروق يظن أن أمه متوفاة حتي كان يوم يلعب في العطفة أمام البيت, وفجأة سمع صوتا يناديه, لا يدري لم خفق قلبه بشدة, التفت ليجد امرأة شابة متشحة بالسواد تحمل طفلا صغيرا علي يدها, كانت تقف أمام مدخل البيت تنظر إليه بوجه ممتقع وعينين دامعتين, تجمد في مكانه وقد ثبت عينيه عليها, جلست المرأة القرفصاء وفتحت له ذراعيها, مرت لحظات لا هي قالت شيئا ولا هو أدرك ما عليه أن يفعل, تجمد الزمن حتي سمعها تغالب دموعها وهي تقول له: أنا أمك يا فاروق! قبل أن يستوعب ما يحدث وجد جدته تندفع إليه وكأنها عادت إلي شبابها وكامل عنفوانها وتحتضنه لتبعده عن المرأة, لا يدري ماذا حدث, تعالت الأصوات حوله, المرأة تبكي والجدة تضمه بكامل قوتها والجارات تجمعن في الشارع الضيق وفي الشرفات, ثم انتقل الجمع إلي داخل شقتهم الصغيرة. متكورا في حضن جدته, يحاول فاروق جاهدا أن يفلت من بين يديها, وقد تشتت عقله واضطرب قلبه الصغير, ومن بين دموع المرأة التي تركت الطفل الذي كانت تحمله, وحشرجات صوت جدته, وكلام الجارات عن الدم الذي لا يستحيل إلي ماء, وبرضه ده ابنها, ده حته منها, وصلي ع النبي يا حاجة, يعني كانت هتعمل إيه, عرف أن المرأة أمه, سحبته إحدي الجارات من بين ذراعي جدته وقربته إلي أمه, أخذته المرأة بين ذراعيها وبللت رأسه بدموعها الساخنة, استكان بين ذراعيها ولم يدر ما يفعل, ولم يشعر بشيء غير أن قلبه لا يزال يخفق بشدة, لا يدري كم مر من الوقت, لكنه كان وقتا قليلا, قبل أن تأخذ المرأة وجهه بين يديها وتنظر في عينيه مباشرة, ثم تقبل رأسه. انصرفت المرأة سريعا, لم تتبادل الحديث مع جدته, وشيعها الجارات بغمزات العيون, ومصمصمة الشفاه, وقبل أن تغيب عن ناظريه وقفت أمه, ونظرت إليه وقالت, وهي تشير إلي الطفل الذي تحمله: أخوك يا فاروق.. المرة الجاية هاخليك تلعب معاه, لم تنتظر رده وسارت في طريقها مسرعة كأنها تهرب منه. كان فاروق في السابعة عندما عرف أنه أمه لا تزال علي قيد الحياة, يومها عاتب جدته لأنها تقول عنه إنه يتيم الأم, قالت جدته في ضيق إنها تعتبرها ميتة; فقد تركته صغيرا, بمجرد وفاة أبيه, وتزوجت وعاشت حياتها كأنها لم تلده, شعر في كلام الجدة بشيء من الضيق, وربما بشيء من الكره لأمه, لكن الجدة لم تعد تقول عنه إنه يتيم الأم, وعادت المرأة مرات ومرات لزيارته, كانت تحمل له هدايا بسيطة, قطعا من الحلوي, وفي المناسبات ملابس رخيصة, يبدو من فرحتها المبالغة بها أنها جاهدت كثيرا لتوفر ثمنها, ورغم أنها لم تكن تتبادل الحديث مع جدته إلا أن اللقاء بينهما أصبح عاديا; لا تتخلله الشجارات ولا حتي مجرد النظرات المتحدية. لا يدري فاروق إن كان يحب أمه أم لا, ولكنه متأكد أنه لا يكرهها, تركته صغيرا وذهبت لتتزوج, ربما كان هذا الأمر ضروريا, لا يعرف, أحيانا يحاول أن يفهم فيتحدث إلي جدته, لكن الجدة تتقدم في العمر وتضعف صحتها وتميل إلي الصمت, تغرق في التفكير, تبتسم لنفسها بين الفينة والأخري, كأنها تستعيد شريط الذكريات, يراقبها فاروق في صمت أيضا, ولا يبقي معها إلا قليلا ثم ينطلق إلي الشارع ليلعب مع أقرانه. يعيش فاروق, الطفل اليتيم الذي فقد أباه صغيرا, وتركته أمه لتربيه جدته العجوز, التي تعيش أحزانها لفقد أحبابها, وتعيش حالة من الفقر والعوز, حيث لا دخل لها إلا معاشا شهريا لا يتجاوز ال700 جنيه, وقد داهمتها أمراض الشيخوخة, وأصبحت في حاجة إلي دواء شهري مزمن يلتهم النصيب الأكبر من دخلها, كما كبر حفيدها وتدرج في صفوف التعليم, وأصبحت احتياجاته المادية أكبر مما معها, أما الأم فلها حياتها مع زوج وأولاد حالتهم المادية لا تزيد كثيرا عن حالة الجدة, ولا تستطيع أن تساهم في نفقات تربيته. تناشد السيدة شادية بيومي محمد راجح, التي تتولي رعاية حفيدها فاروق محمد فاروق محمد والإنفاق عليه من معاشها القليل, بعد وفاة والده وزواج أمه من آخر, تناشد الدكتورة غادة والي وزيرة التضامن الاجتماعي, توفير معاش لحفيدها اليتيم, حتي تستطيع تلبيه احتياجاته ونفقاته المتزايدة, وحتي تتمكن من تعليمه التعليم المناسب, وتنشئته النشأة الطيبة, حتي يغدو في المستقبل مواطنا صالحا, ينفع نفسه ووطنه ومجتمعه. علي حافظ