بيت القصيد من حكمة ميتران أن عدم خلط العام بالخاص ضمانة لما هو عام, كما هو ضمانة لما هو خاص. الذكري.. تتزامن هذه الأيام مع ذكري تولي الرئيس الاشتراكي الوحيد للجمهورية الخامسة الفرنسية. وهو فرانسوا ميتران الذي سيظل مثالا ديمقراطيا يحتذي به رغم التحفظات الواسعة علي طريقة حكمه وأخطائه في فترتي توليه الرئاسة. فقد كان واضحا في فهمه للديمقراطية و تطبيقه لها. فعندما اندمج برنار تابي, صاحب شركتي أديداس للملابس والأدوات الرياضة و ماترا للاتصالات في الحياة السياسية, فكر ميتران في اختيارية وزيرا للمدينة أي ما يوازي وزارة التنمية المحلية في مصر. و قد خير ميتران تابي بين الوزارة و عالم الأعمال. وهكذا اشترط ميتران علي رجل الأعمال واسع الثراء بيع شركاته كسبيل وحيد لتولي الوزارة. و نظرا لإيمان تابي بواجبه و شعبه و بلاده قبل البيع عن طريق بنك كريدي ليونية. وخان البنك الأمانة و لم يطلع تابي علي المبلغ الحقيقي للبيع بل حاسبه علي الحد الأدني الذي حدده تابي للبيع. و لأن عدالة السماء مطلقة, و المولي لا يضيع أجر من أحسن عملا, بعد أن ضاقت بتابي السبل و بعد أن أفلس بسنوات, استرد فارق السعر بقرار المحكمة. واضطر البنك لتغيير اسمه هربا من الفضيحة. وبيت القصيد من حكمة ميتران أن عدم خلط العام بالخاص ضمانة لما هو عام, كما هو ضمانة لما هو خاص. وهكذا تصرف ميتران الذي لم يصفه الإعلام الفرنسي وقت توليه بالحكيم, و لم يتصرف كذلك من وصفهم إعلامهم بالحكماء. الفيلم في فيلم الأخوين للمخرج الفرنسي جان جاك أنو, وهو أحد أجمل الأفلام التي أتمني أن أشاهدها يوما علي شاشات التليفزيون المصري, مشهد معبر عن حال الإعلام الرسمي المصري إذاعيا كان مرئيا أو مكتوبا. الفيلم يروي قصة نمرين صغيرين يولدان في قلب الغابة و يعيشان في قلب معبد مهجور. و يعيش الصغيران بسعادة مع أسرتيهما إلي أن يصل تجار التماثيل الأثرية و يفرقان بينهما. فيعيش أحدهما في الأسر مروضا في سيرك ويعيش الآخر مقاتلا ملحقا بحيوانات أمير يجعله يواجه أشرس الحيوانات. وفي أحد الأيام ينظم الأمير قتالا إحتفاليا بين النمرين يشهده آلاف المشاهدين. وقد دفع المال لأهل السيرك حتي يضحوا بنمرهم المروض الأسير الكسير ليقاتل أشرس حيوانات الأمير. وفي قلب المعركة بين النمرين يتذكر كلاهما الآخر و يتحدان. و يثيرا الذعر و الفوضي والهرج و المرج باتحادهما. فيقتلا مروضي السيرك. و عندما يخرجان من الحلبة و قد هرب الجميع. يعود النمر المروض أسير السيرك إلي قفصه المفتوح ليبقي داخله و يجلس فيه بعد أن مات سجانوه. و في مشهد رائع و جميل يستمر الأسير في البقاء في قفصه قليلا إلي أن يلبي رجاء أخيه في الانطلاق نحو الحرية. و ربما هذا مثال بليغ يقارب حال إعلام مصر الرسمي اليوم. فالرقابة الذاتية غير النزيهة أخطر من الرقابة الرسمية و التعليمات حكمتان بدلا من حكمة واحدة ربما يكون طبيعيا أن يذهب المصريون تلقائيا إلي ميدان التحرير كلما أمكنهم هذا, لأن الأمر لا يتعدي أنه بعد30 عاما من قانون الطوارئ, يحق لشعب مصر العظيم أن يعبر عن شوقه واشتياقه إلي الديمقراطية وحقه الأصيل في التظاهر السلمي. و عندما ينزل الشعب للاحتفاء بالديمقراطية يصبح هذا النزول فرصة للتخوين, تفيد أن هناك خطأ ما. و أتصور أنه في الإعلام حيث إن ذلك يذكر بالحكمة الإنسانية الرائعة لوصف ضيقي الأفق عندما يشير الحكيم إلي القمر في السماء هناك من ينظر إلي إصبعه. وهي حكمة تظل حاضرة هذه الأيام. فعندما يتصالح المصريون مع صناديق الاقتراع, يصور الأمر علي أنه خلاف هذا وكأنه معركة بين نقيضين.. و كأنه أمر شخصي. في حين أن التصويت في حد ذاته أمر شخصي يحترم فيه في الديمقراطيات عدم الإفصاح عن قرار الشخص بما يصوت به الإنسان, لأنه أمر بينه و بين ضميره و خياره الشخصي حسب رؤيته لما هو أفضل لمجتمعه. وعندما يجري الإفراج عن سجين لعدم وجود سند قانوني لحبسه لا يتم النظر كذلك سوي لإصبع الحكيم. ربما يتفق هذا مع مصر الأمس القائمة علي شخصنة كل شيء. فطالما كان يعد انتقادا لتصرف الشخص تطاولا عليه و ليس انتقادا لتصرفه. و تحول الأمر منعكسا علي المجتمع حتي في طريقة قيادة السيارات. و كان للإعلام دور رئيسي في هذا الفهم للأمور. فالإعلام هو القاطرة التي يركبها أيضا من لم يلحق بقطار التعليم و هو الذي يحدد للشعب علي أي قدم يرقص. ويطلق علي الإعلام في الديمقراطيات مجازا السلطة الرابعة نظرا لما يقوم به من محاسبة نزيهة للسياسيين و العمل الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي دون تهويل أو تهوين في هذه البلاد. فالحكومات لا يصدر عنها مقدسات, ولو كان الإعلام قد لعب دوره في فتره النظام الخنيق لما كانت المشكلة هي شرح كلمة تكنوقراط, إنما المفاضلة بين وزراء تكنوقراط لتنفيذ سياسات أم وزراء سياسيين لتوجيه الدفة و وضع سياسات و رؤي مستقبلية. لذلك أتفق مع كونفوشيوس الحكيم الصيني في رده علي سؤال الإمبراطور عندما سأله كيف أحكم شعبي, فأجاب قائلا عليك بتعريف المصطلحات ليعرف الشعب علي أي قدم يرقص و أعتقد أن هذا الدور لتحديد المصطلحات في عالمنا الحديث هو دور الإعلام. إن بقيت حبيس القفص هذه مشكلة خاصة و شخصية و لكن أن تجبر الآخرين بالوهم علي البقاء داخل القفص فهي جريمة لا يعاقب عليها اليوم للأسف سوي الضمير.