استطاع مهرجان الجونة السينمائي, الذي يختتم بعد غد, أن يتجاوز سريعا أزمة افتتاح دورته الأولي الخاصة بالصحفيين وأن ينطلق ليحقق ما أنشئ من أجله, وما هو أهم, وما يبقي في الذاكرة والوجدان: عرض ومناقشة الأفلام الجيدة والاحتفاء بالسينما الجميلة ودعم صناعها والعاملين فيها. والحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها أحد, أن الإدارة الفنية للمهرجان, وعلي رأسها الناقد انتشال التميمي والمخرج أمير رمسيس, المبرمج الأول, تمكنت بالفعل من حشد أفضل أفلام العام حول العالم في برامج ومسابقات تلك الدورة الأولي التي ستعلق بلا شك بالذاكرة. وبالسينما الجميلة فقط, ولد المهرجان كبيرا, ومن الأفلام التي صنعت تميزه: القضية23 للمخرج اللبناني الكبير زياد دويري, والذي حصل علي جائزة أفضل ممثل من مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير لبطله كامل الباشا, كما تم ترشيحه لتمثيل لبنان في مسابقة أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية. وفي المسابقة أيضا, الجانب الآخر من الأمل للمخرج الفنلندي الكبير آكي كاوريسماكي, الفائز بجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية فيبريسي لأفضل فيلم هذا العام, والفيلم الجورجي البديع الأم المخيفة, للمخرجة آنا أوروشادزه, والذي يحكي بعمق ورقة شديدة قصة امرأة في الخمسين ممزقة بين ولعها بالكتابة ومسئولياتها كزوجة وأم. ومن المسابقة كذلك فيلم ابن صوفيا للمخرجة اليونانية إيلينا بسيكو, وهو عمل جميل عن محاولات صبي روسي التعايش مع أمه وزوجها الروسي الجديد, بالإضافة للفيلمين المصريين: الشيخ جاكسون, الذي اختير أخيرا لتمثيل مصر في تصفيات مسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبي, وفوتوكوبي, العمل الأول لمخرجه, والذي حصل المهرجان علي عرضه العالمي الأول. وفي الاختيار الرسمي خارج المسابقة, كان درة الجونة بلا شك الفيلم السويدي المربع, الفائز بسعفة مهرجان كان الذهبية هذا العام, من تأليف وإخراج روبن أوستلوند, وهو عمل مدهش وبديع, يتتبع- بخفة ظل ورشاقة شديدة- حياة وأزمات مدير شاب لمتحف للفن الحديث, ويعتمد- مثل معروضات المتحف- علي أسلوب حداثي تماما ومختلف في السرد يتميز باللمسات الكوميدية الذكية, ويبدو متشظيا في ظاهره لكنه في الحقيقة متماسك للغاية, وتمثل قطع الموزاييك التي يتكون منها عملا فنيا جميلا وموحيا. وفي نفس القسم, تم عرض فيلم الرهيب, الذي يدور حول حياة أسطورة السينما العالمية جان لوك جودار, ويحمل توقيع المخرج الفرنسي الكبير ميشيل أزانافيسيوس, الذي أبهر العالم واكتسح جوائز الأوسكار قبل سنوات قليلة بفيلمه الأبيض والأسود والصامت أيضا الفنان. وهنا, يبدو أزانافيسيوس مختلفا تماما في أسلوبه وطريقة معالجته, ويصنع فيلما عن جودار دون أن يتأثر به أو يتقمصه, مع التعبير المذهل والأمين للغاية عن روح وحقيقة هذا السينمائي الكبير كيساري ثائر ومتمرد وغريب الأطوار أيضا, خاصة في مرحلة ازدهار الموجة الجديدة الفرنسية, وأزمة مايو1968, حين طالب جودار ورفاقه بإلغاء مهرجان كان في ذلك العام تضامنا مع مظاهرات الطلبة والعمال ضد الرئيس الفرنسي في ذلك الوقت شارل ديجول. أما أفضل أفلام هذا القسم وأكثرها إمتاعا, فهو الفيلم الوثائقي78/52, للمخرج ألكسندر فيليب, والذي يحلل- بصورة غير مسبوقة- مشهد القتل في الحمام الشهير جدا من فيلم سايكو(1960) لأسطورة الإخراج السينمائي ألفريد هيتشكوك, ويشير رقم78 إلي عدد لقطات المشهد, ورقم52 إلي عدد القطعات التي استخدمها هيتشكوك, والتي يقال عنها إنها غيرت السينما إلي الأبد. ومن نفس القسم: الفيلم الألماني البديع, الناطق بالإنجليزية, مانيفستو, من إخراج جوليان روزفيلد, والذي يقدم رؤية مختلفة ومدهشة لفلسفة الفن من خلال12 شخصية تؤديها النجمة كيت بلانشيت.