حقا, هناك أشخاص لا يتركون في نفوس الآخرين, سوي الشعور بالدهشة والعجب والاستنكار, وذلك لأنهم يجدون لذة غير عادية في امتداح من لا يعرفونهم, ويجدون متعة في محاولة التقرب منهم, لدرجة تصل بهم أنهم قد يجعلون من هؤلاء الأشخاص أيقونة أو رمزا, بالرغم من أنهم ربما لا يعرفون عنهم سوي أسمائهم, أو أشكالهم, أو بعض من الصفات التي لا تجعلهم يصلون بمشاعرهم واهتمامهم لهذه الدرجة البالغة, ولكن بمجرد أن يقتربوا من أيقونتهم ويعرفونها عن قرب ويكتشفوا فيها من المزايا والصفات, ما قد يفوق خيالهم, سيما لو وجدوا اهتماما بالغا منهم, واحتراما وتقديرا, وتيقنوا أنهم أصبحوا لهم قدر عال وفائق لدي هؤلاء الأشخاص, علي الفور تتحول مشاعرهم وتصرفاتهم, ويبدأون في اللامبالاة وعدم الاكتراث, ورغم أن هؤلاء بالفعل يثيرون الدهشة بتصرفاتهم الشاذة, إلا أنها تصرفات لها تحليل منطقي للغاية, فهؤلاء الأشخاص يحبون النجوم اللامعة البراقة العالية في السماء, ويجدون لذة غير عادية في النظر إليها, ويسعون بكل الطرق إلي الوصول إليها, ولكن بمجرد امتلاك النجمة الساطعة أو نزولها إليهم, يفتقدون الشعور بقمتها, وتتحول في أعينهم إلي مجرد قطعة حجرية ملونة, بلا قيمة, وهذا لاشك أنه صراع نفسي يمر به الكثيرون, لأسباب لا يعلمها سواهم, ولكنها تتصل بهم دائما إلي طريق يفقدهم الكثير من الأشياء التي يمتلكونها, فامتلاك الشيء الثمين في حد ذاته متعة, ولكن المتعة الحقيقية هي معرفة قيمة الشيء حتي يمكننا الحفاظ عليه. فهناك قصة تحكي عن رجل كان يسمع عن الإمبراطور وعظمته وجبروته, وعن غناه وجماله, فأحبه جدا, وكان يحرص علي اقتناء صوره ليضعها أمامه ونصب عينه, وكان يخاطب صاحبها في إجلال وتقدير, وكأنه هو من يقف أمامه وليس صورته, وهذا الشخص ارتكب جريمة ما, زجت به إلي السجن, وعاش في زنزانته حبيسا, يعاني العزلة والضيق في مرارة, لكنه ظل مواليا لحبه للإمبراطور, لا حديث له مع السجان أو المسجونين أو الزائرين إلا عنه, حتي سمع الإمبراطور بذلك, فأحب هذا السجين كثيرا, رغم أنه لم يلتقيه, وقرر أن يسجن بدلا منه, فتخفي الإمبراطور مرتديا زي سجين وخلع ثوبه الملكي والتاج, طالبا تنفيذ الحكم الصادر ضد هذا الشخص فيه, ودخل الإمبراطور الزنزانة بثياب رثة, ليأكل خبز الضيق, ويشرب ماء المرارة, يعيش بين جدران السجن وسط المساجين الأشقياء, بينما انطلق السجين في حرية, يخلع الثياب الرخيصة المهينة, ويرتدي ثيابا فاخرة, ويشارك أسرته وأصدقاءه الحرية والحياة. وكم كانت دهشة الكثيرين, حين شاهدوا هذا السجين يخجل من الإمبراطور, ويستهين به, محتقرا إياه; لأنه ارتدي ثياب السجن, ودخل إلي زنزانته, نيابة عنه, لقد أحب هذا السجين الإمبراطور وكرمه جدا في غيابه, وبعده عنه كجبار عظيم, حين كان محاطا بالعظمة الملوكية, والآن يستخف به, بعد أن ضحي وسجن بدلا منه. والحقيقة, أن هذه ليست مشكلة هؤلاء الأشخاص فقط, وإنما هي مشكلة من يتعامل معهم في المقام الأول, فالأجدر بالإنسان ألا يضفي محبته وإخلاصه بلا حدود; لأن هذا يقلل من شأنه مع الوقت, مع مثل هؤلاء الأشخاص, فليس كل إنسان يعي قيمة المنح والحب والإخلاص, فهناك أشخاص لا تجلك إلا لقوتك وبعدك وجبروتك, ويسترخصونك حينما يرون تواضعك وإخلاصك, حقا العيب فيهم, ولكن من الفطنة أن تعود النجمة إلي السماء, إذا لم تجد من يمنحها قدرها علي الأرض, فبالفعل, عدم تقديرنا للجواهر لن يفقدها قدرها, ولكن لابد لكل إنسان أن يحمي قدره ومكانته من الاهتزاز, سيما مع الأشخاص الذين لا يهتمون بالقيمة الحقيقية ويحكمون علي الأمور من قشورها, مثل السجين الذي أحب جبروت صورة الإمبراطور واستهان بتضحيته.