منذ آماد طوال كان وسيظل الاختلاف والنقد هو أهم منتج ثقافي معرفي تفرزه عقول البشر من توجهات ورؤي جديدة بل ونظريات مستحدثة لم تكن متخيلة أو عارضة علي الذهن, ولعل ذلك هو ما ينسف مفهوم الأحادية الفكرية التي تعد من الآفات المعوقة لأي انطلاقة نحو إشعاعات التقدم والبريق الحضاري, من ثم فقد ظل الاختلاف فضيلة لدي أولئك الذين تسكنهم الرؤية التعددية التي تحتضن الآخر بكل ما يحمله من تناقض يمكن تذويبه مع النقاش والحوار بل والجدل العاصف, ذلك بلوغا لأعتاب أبجديات التنوير تلك التي تسعي كافة النخب لإحداثها أملا في تغير حركة المجتمع بل حركة التاريخ أيضا. وانطلاقا من ذلك نخوض جولة متأنية عاجلة مع كلمات الأديب الصيني الشهير( شيو تسي تشين) والذي ترجمت أعماله إلي العديد من اللغات كان آخرها العربية التي احتضنت روايته الأخيرة( بكين... بكين). أما آراؤه التي استوقفتنا فقد بثها خلال حوار معمق مع المجلة العربية عدد يوليو, أعرب فيه عن رؤيته إزاء تساؤل طرح عليه حول طبيعة العلاقة الطردية بين انطلاقة الاقتصاد الصيني وبين تلك الإنطلاقة الأخري التي ستواكبها علي صعيد الأدب والثقافة, فجاء الجواب مغايرا للمأمول إذ قال: لا يمكن أن يتزامن التطور الثقافي مع الاقتصادي, فيمكن للثقافة أن تسبق الاقتصاد ويمكن أن تصاب بركود وتتراجع خلف الاقتصاد, وبالنسبة الوضعية الصينية فقد اتجهت منظوراته نحو أن الثقافة تسير خلف الاقتصاد, إذ أن تأثير الثقافة الصينية علي العالم أقل كثيرا من تأثير الاقتصاد الصيني عليه, فالوقت الذي غزا فيه شعار صنع في الصين أرجاء العالم كانت الثقافة الصينية تقاوم الحصار داخل الصين. ومن ذلك تكون وقفتنا المنطلقة دوما من الانحياز للثقافة في معناها الأصيل والفكر في تشعباته وإعلائهما علي كل مقدرات الوجود الإنساني. فبداية نؤكد أن مصدر النهضة والتقدم والحضارة لأي أمة هو تلك الديناميكية الثقافية المرتكزة علي تفعيل الوعي بإنتاج وتوليد الأفكار وصياغة المفاهيم التقدمية وطرح الرؤي المستنيرة والتفاعل الحميم مع حركة التاريخ واستنهاض الماضي ودمجه في نسيج المعاصرة واقتحام عوالم المستقبل بكل مستحدث. ولعل الصين في تاريخها الحديث قد اعتمدت مبدأ الإرادة القومية في الارتقاء بالدولة وهو مبدأ لا ينطلق إلا من قناعة ثقافية ورؤية ذاتية مغايرة عن رؤي الكثير من الدول التي تعتبر التقدم هو حلم الأحلام لكنها لا تفعل التعامل مع آليات التقدم المحقق لمشروعية وجوده, فالصين قد خاضت كل جولاتها في دروب التنمية الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية منطلقة أيضا من قناعة ثقافية أخري هي الإيمان المفرط بالطاقة الإنسانية باعتبارها المحور الفاعل والحقيقي في تحقيق أعلي المعدلات التنموية, والصين كذلك حين طرحت منظوراتها تجاه الظاهرة الأمريكية المسماه بالعولمة, لم ترفضها وإنما طالبت بعولمة ذات وجه إنساني وليس ذات طابع ابتزازي, فمن أين جاءت تلك الرؤي علي عموميتها واختلاف توجهاتها إلا من تلك الأرضية الثقافية ذات الخصوصية والخصوبة في آن, وعلي ذلك التطور الاقتصادي التي تشهده الصين يتزامن مع التطور الثقافي الذي يتجلي دوما ومن طرف خفي يجعلك تلحظ نتائجه لكن تتواري مقدماته دون أن يعني ذلك أنها غير قائمة, وإلا فمن أين جاءت تلك النتائج؟! إن الثقافة هي التي تنتج القيم الاقتصادية والسياسية والإجتماعية من ثم تظل هي الموجه المجتمعي الذي تسير في ركابه كل المؤشرات. أما المأخذ الآخر علي الأديب الصيني النابه شيو تسي تشين فيتلخص في أنه يقرر أن مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل إنما هي جزء من أشكال التعبير الأدبي, بينما هي في الحقيقة ليست جزءا ولا كلا ولا شكلا ولا تعدو أن تكون سوي وسيلة معاصرة للتعبير الأدبي أو العلمي أو غير هذا أو ذاك من التعابير المرتبطة بمجالات أخري. ويؤكد في ذات السياق أن هناك في الصين حاليا نوعا من الأدب يسمي أدب الإنترنت وهو بالطبع مختلف عن نظيره من الأدب التقليدي من حيث الأسلوب والمضمون وطريقة الكتابة.... يتناول شيو تسي تشين ذلك دون تصحيح للمسار المفهومي للأدب بمعني أن هذا المفهوم الشائع عالميا كان يستوجب وقفة لتفكيكه يخرج منها الكاتب والقارئ بفكرة أن الأدب لا يكتسب هويته أو خصائصه من الوسيلة أو الأداة, فلا يجوز الحديث عن الأدب الورقي أو السينمائي وإنما يجوز أن نقول الأدب النسائي لأن موضوعه المرأة أو الأدب الفكاهي لأن موضوعه النكات والسخرية فما أكثر الوسائل التي يتداول خلالها الأدب ولكن ما أعسر أن نغير جوهر الأدب ومعناه التاريخي الذي أحدث تغيرات جذرية في حياة الأمم والشعوب.