ذات مرة كان سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وأرضاه- يجهز ويعد موائد الطعام للناس, فرأي رجلا يأكل بشماله, فجاءه من خلفه, وقال: ياعبدالله: كل بيمينك.. فأجابه الرجل: ياعبدالله إنها مشغولة, فكرر عمر القول مرتين, فأجابه الرجل بنفس الإجابة, فقال له عمر: وماشغلها؟ فأجابه الرجل: أصيبت يوم غزوة مؤته, فعجزت عن الحركة.. فجلس إليه عمر وبكي.. وهو يسأله: من يوضئك؟, ومن يغسل لك ثيابك؟, ومن يغسل لك رأسك؟, ومن.. ومن..؟ ومع كل سؤال ينهمر دمعه.. ثم أمر له بخادم وراحلة وطعام, يرجوه العفو عنه لأنه آلمه, بملاحظته علي شيء لم يكن يعرف أنه لاذنب له فيه.. هكذا كانت تصنع القوانين لخدمة احتياجات الرعية! كان عمر يخرج ليلا في شوارع المدينة, لا ليتلصص علي رعيته, ولكن ليتفقد حالها.. ذات مساء إذ بأعرابية تناجي زوجها الغائب وتنشد في ذكراه شعرا, فيسمعها أمير المؤمنين, ثم يسألها من خلف الدار: أنا عمر بن الخطاب.. مابك ياأختاه؟, فترد الأعرابية: ياأمير المؤمنين لقد ذهب زوجي إلي ساحات القتال منذ أشهر وإني أشتاق إليه, فيرجع أمير المؤمنين إلي دار ابنته حفصة رضي الله عنها ويسألها: كم تصبر المرأة علي فراق زوجها؟, وتستحيي الابنة وتخفض رأسها فيخاطبها متوسلا: إن الله لايستحي من الحق, ولولا أنه شئ أريد أن أنظر به في أمر الرعية لما سألتك, فتجيب الابنة: أربعة أشهر ياأمير المؤمنين, ويعود الفاروق إلي داره ويكتب لأمراء الأجناد( لاتحبسوا الجيوش فوق أربعة أشهر), ويصبح الأمر قانونا يحفظ للمرأة أهم حقوقها.. هكذا تشكل( قانون المرأة) الذي صاغته احتياجاتها وفقا لصياغة( الأعرابية وحفصة). كان عمر, رضي الله عنه, يواصل التجوال المسائي متفقدا الرعية, وإذ بطفل يصدر أنينا حزينا, فيقترب من الدار, ويسأل عما به؟ فترد أم الطفلة:( إني أفطمه ياأمير المؤمنين).. حدث طبيعي أم تفطم طفلها ولذا يصرخ, ولكن أمير المؤمنين لايمضي إلي حال سبيله, وبل يحاور أم الطفل ويكتشف أن الأم فطمت طفلها قبل موعد الفطام, لحاجتها لمائة درهم, كان يصرفها بيت مال المسلمين لكل طفل بعد الفطام, يرجع الفاروق إلي منزله لا لينام إذ أنين ذاك الطفل لم يبارح عقله وقلبه, فيصدر أمرا بصرف المائة درهم للطفل منذ الولادة وليس بعد الفطام.. ويصبح الأمر قانونا يحفظ حقوق الأطفال ويحميهم من مخاطر الفطام المبكر. وكان الفاروق يحب أخاه زيدا, وكان زيد هذا قد قتل في حروب الردة, ذات نهار بسوق المدينة, يلتقي الفاروق وجها بوجه بقاتل زيد وكان قد أسلم وصار فردا في رعيته, يخاطبه الفاروق غاضبا:( والله إني لا أحبك حتي تحب الأرض الدم المسفوح), فيسأله الأعرابي متوجسا:( وهل سينقص ذاك من حقوق ياأمير المؤمنين), ويطمئنه أمير المؤمنين( لا). فيغادر الأعرابي بمنتهي اللامبالاة قائلا:( إنما تأسي علي الحب النساء), أي مالي أنا وحبك إذ ليس بيني وبينك غير( الحقوق والواجب), لم يغضب أمير المؤمنين ولم يزج به في السجن بل كظم غضبه علي جرأة الأعرابي وسخريته وواصل التجوال. لم يفعل ذلك إلا إيمانا بحق هذا الأعرابي في التعبير وبكظم الغضب وهو في قمة السلطة, ويفضل ذلك تشكل في المجتمع( قانون حرية التغيير). ثم امرأة كانت تلك التي جردته ذات جمعة من لقب أمير المؤمنين حين قالت( أخطأت ياعمر).. امرأة من عامة الناس ترفض قانون المهر الذي صاغه الفاروق عمر, لم يكابر أمير المؤمنين, ولم يزج بالمرأة في السجون, ولم يأمر بجلدها بل اعترف بالخطأ بالنص الصريح( أصابت امرأة.. وأخطأ عمر), ثم سحب قانونه وترك للمجتمع أمر تحديد المهور حسب الاستطاعة. هكذا تصنع القوانين, أي حسب غايات المجتمع وطموحاته وثقافاته, وذلك بالغوص في قاع المجتمع المستهدف بتلك القوانين.. فالمجتمع هو مصدر القوانين وليس السلطة,( بما لايخالف الحق طبعا). لم يتغير الناس ولا الحياة فقط, ولكن هل من راع في أمتنا يسير علي نهج( عمر)! حقا أتعبت من جاء بعدك يابن الخطاب رضي الله عنك وأرضاك!