للأدب الروسي جاذبيته وأجواؤه الخاصة, ارتبط في ذهني بالليالي الممطرة, وسيدات يحكن الصوف بالأبرة إلي جوار المدفأة, ورجال في معاطف وأحذية ثقيلة وقلنسوات من فرو يشربون الفودكا. لم أتخيل رواية ينطلق أبطالها بأردية صيفية يشيعون البهجة والمرح فيما حولهم, حتي إن حدث, يظل الدب الروسي البني اللون بضخامته وحركته الثقيلة جاثما في رأسي. دائما أجواء رمادية لا تعرف الشمس, وجليد يغطي الزوايا, وروايات لا تقل عن بضع مئات من الصفحات. انتابني إلحاح ذاتي, لا أدري سببه, لمعاودة قراءة رواية الأبله للكاتب فيودور دوستويفسكي. سبق أن قرأتها بجزئيها منذ أكثر من ثلاثين عاما, وتابعتها مسلسلا تليفزيونيا بطولة محمود ياسين وميرفت الجندي, وقت كان التليفزيون وسيلة لرقي المجتمع وتثقيفه. في النهاية, شرعت في القراءة فنزلت ستائر الماضي تجر خلفها أجواء الأدب الروسي. يقع الجزء الأول للرواية في نحو ستمائة صفحة, بينما يتجاوز الثاني الخمسمائة ببضع عشرات من الصفحات. الترجمة للراحل سامي الدروبي الأديب والمترجم السوري. ارتبط اسمه بترجماته للكثيرين من الأدباء الروس أمثال تولستوي وجوجول وتشيخوف وبوشكين, في حين اختص دوستويفسكي بترجمة ما يقارب العشرين رواية منها, الشياطين, المقامر, الجريمة والعقاب, والمساكين. تدور رواية الأبله حول الأمير ميشكين العائد من رحلة علاج في سويسرا, لا يربطه بلقبه سوي انتمائه لأسرته العريقة ليس إلا, فلا هو صاحب أملاك ولا مناصب. فقير معدم, ومثالي وطيب إلي درجة البله, من هنا يبحث الكاتب في قدرة هذا الشاب علي العيش في مجتمع ممزق منافق متصارع فاسد انتهازي. نموذج يمكن ان تجد له أشباه عديدة في مجتمعات وأزمان مختلفة. تتشابه حياة بطل الرواية من الحياة الشخصية لدوستويفسكي, حيث كانت تنتابه نوبات صرع من حين لآخر فاقترب تجسيده وحسه الروائي الإبداعي من حقيقة يعيشها ويعانيها, ليس في رواية الأبله فقط, بل وفي الأخوة كرامازوف, تجد ذات الشخصية حاضرة ومؤثرة ويصعب تجاهلها. ما الذي جعلني في ذلك الوقت أصبر علي قراءة رواية تقع في أكثر من ألف صفحة, ثم مشاهدتها كمسلسل, وكأنني لم أرو ظمأي بعد, لا أتذكر السبب. حاولت استجرار الدوافع, وحث ذاكرة اعتادت النسيان, فعدت صفر اليدين. ربما نهم القراءة وندرة ما يمكن أن تصل إليه يداي, سواء لأسباب اقتصادية أو لوجستية, وربما براعة دوستويفسكي في ذكر التفاصيل الصغيرة وجرك إلي قلب المشهد, وربط الأحداث ببعضها البعض, فما يبدو صغيرا عابرا لا يلبث أن يظهر أثره الكبير. يرغمك أن تقرأ كل كلمة, وإلا غامرت بضياع وقتك دون جدوي. وربما تصويره للنفس البشرية وما تمر به من مراحل مختلفة من المعاناة سواء كانت الشخصية خادما أو رجل قانون كما في الجريمة والعقاب. في النهاية, أرجعت ذلك إلي اختلاف نظرتنا وتقديراتنا للأمور مع مرور الأيام, فما قبلته بالأمس, قد تتردد حياله اليوم. تصنيفيا, يصعب وصف كل رواية بلقب( رواية عالمية), حتي ولو عرفت بذلك في المحافل الأدبية والدوائر الرسمية. فمازال موقفي من رواية آلام فيرتر للألماني يوهان جوته لم يتغير. ترجمها للعربية فؤاد فريد, ضمن ما ترجم من أعمال أجاثا كريستي وآلكسندر دوماس( الأب) مؤلف روايتي الكونت دي مونت كريستو والفرسان الثلاثة. فللآن لا أعرف سببا واحدا يبرر وصف رواية جوته بالعالمية. تري لو أعاد نقاد ذلك الزمان قراءتها الآن, هل يغيرون رأيهم بعد مضي نحو مائتين وخمسين عاما علي نشرها. ربما؟.