اكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيتهب, بالقطع, كلنا يعرف هذا الحديث النبوي الشريف, وأغلبنا يظن أنه ينطوي فقط علي معني المسؤولية, ولكنه في الواقع له مدلول ضمني مرتبط بالهدف الحقيقي منه, وهو السبب في وجود راع ورعية, فالمقصود بالرعية من يحتاجون إلي الرعاية, وأي من ينقصهم شيء وربما أشياء, ويفترض أن يكون هذا النقص غير متوافر في الراعي, فهو من يكمل هذا النقص. ولكن ويا للأسف, فكل الرعاة يلومون علي الرعية عندما يرتكبون الأخطاء, ويعاملونهم وكأنهم ارتكبوا جريمة أو اقترفوا ذنبا لا يغفر, ويتناسون أن الرعية حينما يكفون عن ارتكاب الأخطاء, فحينها فقط لن يحتاجوا إلي رعاة, فكم من أب وأم يعاقبون أبناءهم علي أخطائهم, ليس بدعوي التأنيب لعدم تكرار الخطأ, ولكنهم يستنكرون حدوث الخطأ في حد ذاته, فهم دائما يرددون جملة: كيف فعلت هذا؟, وينظرون بنظرة ملؤها الدهشة والعجب, وكأنهم يعاملون أشخاصا متكاملين لا يفترض فيهم السهو, أو إساءة تقدير الأمور, وكذلك الرؤساء مع مرءوسيهم, والمعلمون مع تلاميذهم, فكل راع يتعامل مع رعيته أنهم متكاملون, لو كان الأمر هكذا, فلا حاجة بهم إلي هؤلاء الرعاة, فالإنسان مخلوق بطبيعته ضعيف, ويحتاج دائما إلي الرعاية, وعندما يخطئ يحتاج إلي من يأخذ بيده, لا لمن يلومه ويؤنبه, ولو كل راع ركز قليلا, سيكتشف أنه هو شخصيا يكون من الرعية في مواضع أخري, فهو تارة راع, وتارة رعية. وقطعا, حينما يكون من الرعية يتقبل فكرة خطأ, ويأبي علي نفسه أن يكون موضع اللوم والتقريع, وتميل نفسه إلي العتاب والنصح والتماس الأعذار, فسبحان الله, فالراعي الأول والأخير هو المولي عز وجل, ونحن رعيته, ورغم ذلك يمنحنا الكثير من الفرص عندما نخطئ, ويرسل لنا آياته كدليل علي غفرانه, ولم يعاملنا قط علي أننا متكاملون, مفترض فينا عدم الخطأ, ولكننا في هذه الحياة بمجرد أن تأتينا فرصة الشعور بالمسؤولية من الآخرين, نشعر وكأننا أمسكنا اللجام, وأصبحت مقادير هؤلاء البشر في أيدينا, وننتظر منهم أي هنة; حتي ننهال عليهم بالسياط بلا رحمة, ومن يسمعنا ونحن نلومهم, يشعر وكأننا أتينا من طينة أخري غير طينتهم, فنحن في هذه اللحظة نتناسي أخطاءنا, بالرغم من أنها ربما تكون أشد وطأة من أخطاء من نجلدهم بلا رحمة, تحت شعار أنهم رعيتنا. وهذا يذكرني بموقف حدث لأحد الرجال, عندما كان يتنزه علي سفح جبل, فتناهت إلي أسماعه أنغام ناي عذبة, فسار نحو مصدر هذه الأنغام, فرأي راعيا جالسا في ظل شجرة كبيرة, يعزف علي الناي والغنم حوله يلتهم العشب الأخضر بهدوء. فحيا الرجل الراعي وسأله عن حال القطيع, فبدأ الراعي يحدث زائره عن الخراف وخصال كل واحد منها, فتعجب الرجل من الكلام, ولم يصدق أن الراعي يعرف كل خرافه, وأن خرافه تعرفه, وأنه يدعو كل واحد منها باسمه, فنهض الراعي من مكانه ونادي اسما, فأتي إليه خروف, وظل باقي القطيع في أماكنهم, ونادي اسما ثانيا, فأتاه خروف آخر, وظل كذلك باقي القطيع في أماكنهم, ونادي اسما ثالثا ورابعا, حتي حضرت الخراف إليه واحدا واحدا, فدهش الرجل مما رأي, وسأل الراعي, كيف يميز الخراف وهي متشابهة, فابتسم الراعي, وقال: هذا أمر في غاية السهولة, ففي هذا الخروف قطعة صوف مقطوعة, وفي ذلك نقطة سوداء, وفي هذه النعجة جرح, وتلك مقطوعة الأذن..., فسأله الرجل: أليس في القطيع خروف كامل؟, فابتسم الراعي وقال: إن الخراف الكاملة لا تحتاج إلي راع.. ويا ليت كل راع يدرك أن الرعية المتكاملة قطعا لا تحتاج إليه.