فقد ميكروفون الاذاعة المصرية صوتا ذهبيا قليلا ما يتكرر.. صوتا طالما غرد عبر الأثير مقدما البرامج النافعة, وقارئا متميزا لنشرات الأخبار, صوتا له جرس خاص يختلف عن عديد الأصوات النسائية التي تعاملت وصافحت آذان المستمعين. رحلت إلي عالم البقاء زميلة الدرب ورفيقة المسيرة الرائدة الاذاعية عواطف البدري لأفتقد بهذا الرحيل إنسانة وأخت وصديقة فاضلة وإذاعية لامعة كتبت بعطائها للميكروفون صفحات ناصعة مضيئة في سجل الاذاعة المصرية, وهو السجل الحافل بالنجوم التي ملأت الأثير عطاءا باذخا وجهدا كبيرا حقق الريادة لمصر في مجال البث الاذاعي واتذكر تلك الأيام في مطالع خمسينيات القرن الماضي عندما جاء ترتيب عواطف البدري في مقدمة دفعة المذيعين الجدد الذين نجحوا في امتحانات الإذاعة والذين صدر بهم القرار بإلحاقهم بالعمل مذيعين ومقدمي برامج وكان ذلك في الأول من مايو سنة1950, ومنذ اللحظات الأولي التي وقفت فيها خلف الميكروفون تصدح بصوتها المميز والأداء المتزن والإلقاء المتقن. وبعد أقل من عامين من العمل كمذيعة ربط تقدم فقرات البرنامج وتقرأ النشرات دخلت إلي مجال تقديم البرامج وعلي يديها نشأ وترعرع أول برنامج إذاعي يقدم الخدمة الطبية للمستمع وهو البرنامج الذي استضافت فيه أساتذه الطب من مختلف التخصصات لتناقشهم في طرق الوقاية من الأمراض وطرق العلاج السليم, وكان أن اتفقت مع الأطباء علي استقبال المرضي الفقراء في عيادتهم إذا كان الآمر يستحق اكثر من النصيحة عبر الميكروفون وجميعهم قدموا خدماتهم للمرضي حسبة لوجه الله وتقديرا للدور الذي يقوم به البرنامج, وكم هي عديده البرامج الأخري التي قدمتها هذه الرائدة الاذاعية وأثرت بها خريطة البرامج ومن ذلك برنامج تميز بالجدةب والطرافه, وأقصد به برنامج اأغرب اليومياتب ومدته خمس دقائق يوميا تحكي فيه عواطف يوميات, الانسان والحيوان والنبات وحتي الجماد مثل يوميات موظف ويوميات تلميذ ويوميا شجرة من الأشجار, وهكذا بما في ذلك من معلومات تثري عقل ووجدان المستمع. عواطف البدري كانت إنسانة آمنت بقضاء الله وكانت في أعلي درجات الإيمان عندما فقدت فلذة كبدها وهو في عمر الزهور في حادث الباخرة دندرة التي كانت تقل العشرات من أعضاء نقابة الزراعيين في رحلة نيلية إلي القناطر الخيرية كانت الفاجعة ضخمة عندما غرقت الباخرة وغرق ابنها مع عشرات الغرقي ولكنها رضيت بقضاء الله واحتسبت ابنها في قائمة الشهداء وتماسكت عواطف أيضا ولم تلطم خديها عندما فوجئت بنقلها من الاذاعة إلي جهة أخري بعد أن أصابتها لعنة مراكز القوي في مستهل عهد الرئيس السادات فأصابها الشتات في مجال آخر بعيد عن تخصصها, جاهدت عواطف وأنصفها القضاء وعادت بعد سنوات إلي العمل الإذاعي وشغلت وظيفة مستشار رئيس الاذاعة, وخلال عملها هذا قدمت العديد من الأفكار لبرامج إذاعية أثرت الخريطة البرامجية, كما قدمت برنامجا في اذاعة الشرق الاوسط, وعندما وصلت إلي سن المعاش في منتصف ثمانينات القرن الماضي أقام زملاؤها وأبناؤها الاذاعيون حفل تكريم يليق بقامتها وقيمتها الإذاعية, وعلي مدي السنوات الثلاثين الماضية, كانت مستمعة جيدة للإذاعة بمختلف شبكاتها, وكانت تسجل أي هفوة إذاعية وتتصل بأبنائها وبناتها الاذاعيين تصحح الخطأ وتعطي النصيحة وتقوظ المجيد حتي استحقت أن تكون أم الاذاعيين بعد رحيل الرائدة صفية المهندس. أحزنني رحيل عواطف البدري فقد كانت الأخت والصديقة علي مدي اكثر من نصف قرن وقدمت لي شخصيا وهي مستشار لرئيس الاذاعة المشورة والرأي السديد, وكانت تشرف بنفسها علي تنفيذ الخريطة البرامجية وكم أرجو ان يطلق اسمها علي أحد استديوهات الاذاعة رحم الله عواطف البدري وسكنها فسيح جناته.