عندما يسدل الليل غطاءه الحالك علي البشر, وعندما يتبخر الحلم ويغيب خلف خيوط السحاب, وحينما لا يظهر في الأفق سوي ضوء الضباب, فهنا فقط يتجسد الواقع في صورة المستحيل, فهذه الكلمة كم هي قاسية, لا تتحملها أي نفس بشرية, فهي حقا قاتلة, فما أصعب أن يشعر إنسان بغصة هذه الكلمة بكل ما تحمله من معني, فالإنسان بطبيعته يرفض أن يستسلم لها, ويشعر أن كل شيء متاح, وخلق لخدمة أغراضه وأحلامه. فحينما يدرك أن ما تتوق له نفسه بات في عداد المستحيل, هنا فقط يتسلل اليأس إلي القلب وإلي الروح والنفس, فمعني المستحيل أنه لا جدوي من أي محاولة, وأن الفشل هو النهاية الطبيعية, والنفس البشرية بطبيعتها تأبي الفشل, وترفض الخضوع والاستكانة لهذا الشعور القاسي, ولكن في ذروة هذا الإحساس وما يتبعه من تبعات منغصة للحياة, وقادرة علي أن تحيلها إلي جحيم, فإذا بنداء يأتي من الأفق ويردد أنه لا مستحيل مادام هناك رب العرش الذي يهب ويمنح, ويحيل المستحيل إلي شيء ملموس يمكن للإنسان أن يصل إليه بمنتهي البساطة, فمشكلة الإنسان الحقيقية أنه كثيرا ما يتناسي أن للوجود ربا موجودا, قادرا علي صنع المعجزات في أي زمان ومكان, فكيف يتسرب الشعور باليأس إلي النفس, إذا آمنت بقدرة الله علي خلقه ؟! وكيف نردد كلمة المستحيل لو آمنا وأدركنا أنه مادامت الحياة مستمرة, فكل شيء ممكن الحدوث ؟ وكما قال نابليون بونابرت: لا مستحيل تحت الشمس. وهذا يذكرني بقصة حقيقية حدثت في روسيا منذ قرون طويلة, حيث كان نيقولا قيصر روسيا قد اعتاد أن يزور معسكر جيشه خفية, وفي إحدي الليالي, وجد موظفا شابا ابنا لأحد أصدقائه, نائما مسندا رأسه علي الطاولة, وأمامه مسدس وورقة, وكان الشاب قد كتب علي الورقة رقم المبلغ الذي كان مديونا به, وبسبب يأسه أراد أن ينهي حياته, وكان قد كتب في أسفل الورقة: من يمكنه أن يسدد ديوني ويدفع عني مبلغا كهذا؟!, وكان هذا السؤال غير موجه لأحد, ولكنه كان تقريرا لواقع, ومبررا لقراره بالانتحار, فأيقظه القيصر وعاقبه بسبب نومه وقت العمل, ثم أخذ القلم وكتب تحت السؤال: أنا نيقولا قيصر روسيا سأدفع عنك هذا المبلغ. ومن يقرأ هذه القصة بتمعن, سيدرك أن الله سبحانه وتعالي هو الذي أرسل قيصر روسيا في هذه اللحظة تحديدا; لإنقاذ هذا الشاب, علاوة علي أنه إذا كان هناك إنسان قادر علي دفع الهموم عن شخص, فما بالنا بالمولي عز وجل, فكيف يتسني لإنسان أن ييأس بسبب همومه, أو بسبب خيالية أحلامه, فما نظنه مستحيلا, ما أبسطه عند الله سبحانه وتعالي, فكل إنسان يظن أن همه هو أكبر هم, وأن حلمه هو أصعب حلم, ولكنه لو تفكر بهدوء وروية, وترك لعقله العنان لكي يخوض في قدرة الله في خلقه, سيدرك حينها أنه لابد ألا يكون لليأس مكان في قلبه أو حياته, وأنه يمكنه أن يحقق كل ما تصبو إليه نفسه, إذا آمن بأحلامه, وتيقن من قدرة الله علي تحقيقها, فلو ترك قلبه يخوض في كل لحظات حياته, سيتيقن أن حياته كانت عبارة عن سلسلة من الأحلام المستحيلة, والتي باتت واقعا ملموسا, يتلمسه ويتنفسه في كل دقائق حياته دون أن يشعر, ولكنها الطبيعة البشرية التي تخشي دائما من الحاضر والمستقبل, وتظن أن هبات الحياة قد توقفت عند لحظة معينة, ولكن من يرفع رأسه إلي السماء, وينظر إلي الأفق, سيدرك بمنتهي اليقين أنه لاشيء في الوجود اسمه المستحيل.