وأكل أموال الناس بالباطل والغش والخداع في الكيل والوزن أمر خطير علي صاحبه في الدنيا والآخرة, فهو دليل علي شح النفس وتعلق القلب بالكسب الخبيث , وهذا الغش لا يظهر إلا في مجتمع أصابه اعتلال في الأخلاق وضمور في الإيمان, بالإضافة إلي أنه فساد اقتصادي واجتماعي خطير يؤدي إلي فساد العلاقات بين أفراد المجتمع. ونظرا لخطورته اهتم الإسلام أي اهتمام بقضية الكيل والميزان. وذكر لنا القرآن الكريم كثيرا من المواقف والعواقب التي تنال من أهل الغش والخداع في الكيل والميزان في الحياة الدنيا والآخرة. يقول الشيخ محمد الزعرب من علماء الأوقاف- الغش في البيع والشراء حرام شرعا ولا يظهر هذا الغش إلا في مجتمع أصابه اعتلال في الأخلاق وضمور في الإيمان وحقيق من هذا حاله أن يطرد من صفوف المؤمنين قال, من غشنا فليس منا ومن أساليب الغش الغش في الكيل والميزان قال تعالي ويل للمطففين أي عذاب وهلاك والتطفيف هو الشيء الطفيف أي القليل. كمن ينقص من كيلو السكر خمسة جرامات مثلا أو من كيلو التمر ثمرة أو ثمرتين. فويل لهذا العبد الذي يبيع الجنة بالقليل وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصة أهل مدين كانت قرية أهلها تجار أغناهم الله تعالي, ولكنهم كانوا يغشون في الكيل والميزان فأرسل الله تعالي لهم رسول الله شعيب عليه الصلاة والسلام يفهمهم بعدم الغش فقال لهمولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير أي أن الله تعالي أغناكم بالحلال فلماذا الغش والطمع وقال تعالي علي لسان شعيب عليه السلام محذرا أهله وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط سورة هود.4 لكنهم لم يسمعوا النصيحة وأصروا علي الغش فنجي الله تعالي شعيبا والذين معه فخرجوا من هذه القرية, وأرسل الله تعالي علي هذه القرية صيحة من السماء وارتجت الأرض وزلزلت بهم فماتوا جميعا قال فأخذتهم الرجفةفأصبحوا في دارهم جاثمين الأعراف(19). ويضيف الشيخ الزعرب أن صور الغش متعددة ولا تقتصر علي الكيل والميزان فقط فمنها ما يعرف بالفقه بيع المصراة والمصراة هي عندما يريد الانسان بيع أي حيوان يطعمه ملحا ليشرب ماء كثيرا فيثقل في الميزان عند البيع أو يحبس لبنها في درعها ويظن المشتري أن من عاداتها كثرة لبنها أو أنها ثمينة, وقد نهي رسول الله, عند ذلك فقال لا تصروا الإبل والغنم أي لا تحسبوا لبنها فيها, فالحلال بالنسبة للتاجر أن تكون كفت الميزان متساويتين, ولكن الأفضل والأحوط للتاجر أن تكون كفة الشيء المباع أثقل قليلا حيث مر الرسول عليه الصلاة والسلام علي رجل في السوق وهو يزن فقال له زن وأرجح ومر أبو هريرة رضي الله عنه بشخص يحمل لبنا يبيعه وقد خلطه بالماء فقال له أبو هريرة كيف بك إذا قيل لك يوم القيامةخلص الماء من اللبن وجاء في التفاسير قدم رسول الله, المدينة, وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله تعالي هذه الآيات ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون, ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين. وجاء في الأثر يقول الإمام أبو عوانه دخلت علي مريض, وقد نزل به الموت فجعلت ألقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها فلما أفاق قلت له يا أخي مالي ألقنك الشهادة ولسانك لا ينطق بها؟ فقال: إن لسان الميزان علي لساني يمنعني من النطق بها. فقلت له: بالله أكنت تزن ناقصا؟ قال: لا والله ولكن ما كنت أقف مدة لأختبر صحة ميزاني أي لا يهتم بتنظيف أو صيانة ميزانه فما بالنا بمن ينقص الميزان متعمدا؟ يقول الشيخ محمد شعلان وكيل وزارة أوقاف البحيرة إن قضية الكيل والميزان اهتم بها الإسلام اهتماما كبيرا وذكرها القرآن الكريم في مواضع عديدة منها قال تعاليوأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها سورة الأنعام152 وقال عز وجل وأفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا الإسراء35 وقال تعالي وإلي مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان.. الأعراف85 وقال تعالي يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين هود.85 وقل عز وجل والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان الرحمن8,7,.9 وبالتأمل والنظر في الآيات القرآنية نري أن الله تعالي أمر بتوفية الكيل والميزان والأمر بالشيء نهي عن ضده ولذا حرم الله سبحانه وتعالي بخس الكيل والميزان والتطفيف فيهما وقوله تعالي بالقسط أي بالعدل بحيث لا يزيد ولا ينقص. وقوله تعالي لا نكلف نفسا إلا وسعها أي طاقتها رفعا للحرج عن المسلم في الكيل والميزان إذا هو نقص أو زاد بغير عمد ولا تساهل. ويشير الشيخ شعلان إلي إن التطفيف من الأخلاق المذمومة في الإسلام, وهو من طفف الكيل إذا قلل نصيب المكيل له في إيفائه, ومن ثم يكون التطفيف تقليل نصيب المكيل له وزيادة نصيب المكيل إليه. فإذا اشتريت تأخذ زيادة وإذا بعت تعطي الأقل. وكل أنواع التطفيف. فالمعني يكون محدودا, ويكون واسعا فالمحدود في الوزن والكيل والمساحة, والعدد أما التطفيف بمعناه الواسع يشمل كل أنواع الغش والرسول عليه الصلاة والسلام يقول من غشنا فليس منا وكلمة ليس منا من أشد أنواع الوعيد. وقال العلماء إذا كان التطفيف بحق البشر سبب هلاك الإنسان فكيف بالتطفيف بحق خالق السنوات والأرض؟! إذا قللت حق إنسان أنت هالك فكيف إذا قللت حق الخالق تبارك وتعالي؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله,: خمس بخمس قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال: ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت وما منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات. ويضيف شعلان أن للصحابة رضي الله عنهم مواقف قوة نحو قضية التطفيف. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. إذا ائتمنت فلم تكن أمينا فلم تكن أمينا.ائتمنت علي الوزن أمينا ثم قال يؤتي بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال له أد أمانتك فيقول أي ربي كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال فيقال انطلقوا به إلي الهاوية, فينطلق به إلي الهاوية وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتي يدركها فيحملها علي منكبيه حتي إذا نظر أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الأبدين. ثم قال الصلاة أمانة والوضوء أمانة والوزن أمانة والكيل أمانة, وأشياء عدها وأشد ذلك الودائع. ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقي الله في قلوبهم الرعب ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع الله عنهم الرزق, فالتطفيف سبب لسخط الجبار وولوج النار ويعاقب الله عليه في الدنيا بالقحط والجدب وجور السلطان. والتطفيف دليل علي شح النفس وتعلق القلب بالكسب الخبيث والأمة التي ينشأ فيها الداء آيلة إلي الذل والهوان بالإضافة إلي أنه يؤدي إلي إفساد العلاقات بين أفراد المجتمع, ويكون المطفف قدوة سيئة لمن يتبعه في هذا الأمر, وذلك بتحمل الوزر والإثم علي ما فعل, وفي الآخرة يتوعد الله سبحانه وتعالي المطففين بواد في جهنم. يقول الدكتور حمادة القناوي من علماء الأوقاف إن معني التطفيف الزيادة في الكيل والميزان إذا كان هو المشتري, والنقص والبخس إذا كان هو البائع. وهو, فساد اقتصادي واجتماعي كبير, رذيلة اجتماعية ونقيصة وعيب يطعن في الخلق, ويؤدي إلي ابتعاد الناس عن فاعله,ولأهمية هذا الأمر وخطورته أرسل الله- سبحانه وتعالي- شعيبا- عليه السلام- يدعو الناس إلي التوحيد وتحذيرهم من نقص الكيل والميزان معتبرا ذلك إفسادا في الأرض بعد إصلاحها, قال تعالي:{ وإلي مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين}, الأعراف:85]. ويستهدف التوجيه القرآني الكريم تربية الإنسان علي عدم الإضرار بالآخرين واحترامهم والقضاء علي أخلاقيات الغش والخديعة والظلم وهو ما اسماه الإفساد في الأرض. مثل هذا ما نزل بمكة بشأن المطففين, قال تعالي:{ ويل للمطففين, الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون, وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون, ليوم عظيم, يوم يقوم الناس لرب العالمين}(سورة المطففين, الآيات:1-.5) فربط التطفيف والنهي عنه بأصل من أصول العقيدة وهو يوم الحساب, وقيام الناس لرب العالمين. وما أروع لفتة الإمام القشيري في تفسيره أن المراد بالآية الكريمة- والله أعلم-: عدم إنقاص حجم المكيال عن المعهود والمتعارف, فالصنجات( الأوزان) يجب أن تكون وافية مضبوطة, وليس المراد إيفاء ما يكال أو يوزن, فذلك مضمون قوله تعالي:{ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا}( سورة الإسراء الآية35). فالأمر بإيفاء الكيل غير الأمر بإيفاء المكيال, فالآيات تقرر بوضوح ضرورة تحقق العدل في المكيل وآلة الكيل, وفي الموزون وآلة الوزن. عن أبي المغيرة, قال: سمعت ابن عباس- رضي الله عنهما- يقول في سوق المدينة: يا معشر الموالي, إنكم قد بليتم بأمرين أهلك فيهما أمتان من الأمم: المكيال, والميزان. قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالي, وضعه للخلق, ونصبه للحق. ويضيف د. حمادة القناوي أن السنة جاءت محذرة من التطفيف في الكيل والوزن, لما في ذلك من الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل عن طريق التطفيف وبخس الكيل والوزن. وقال ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله,: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتي يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا, ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان, ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا, ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم, وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا بما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم وكان ابن عمر رضي الله عنهما يمر بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتي أن العرق ليلجمهم إلي أنصاف آذانهم تفسير القرطبي19..254 وإذا كانت النصوص منصبة علي الكيل والوزن إلا أن الأمر يشمل كل ما يلحق الضرر بالمسلمين من غش ونحوه فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مر علي صبرة طعام فأدخل يده فيه, فنالت أصابعه بللا, فقلا: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتي يراه الناس وقال: من غشنا فليس منا مسلم رقم(101). والصبرة, وهو: الكومة من الطعام. وأراد بالسماء: المطر.