ليست هذه بروكسل التي زرتها قبل سنوات. داخل محطة يورو ستار الدولية للقطارات, تكثر نظرات ذات مغزي لذوي الملامح غير الأوروبية. وأمام بوابات المحطة الرئيسية, يقف رجال شرطة أشداء مدججين بالسلاح كأنهم يستعدون لخطر قادم لامحالة. ظننت أن لهذه الأجواء علاقة باقتراب الذكري الأولي لتفجيرات بروكسل الإرهابية التي هزت المجتمع البلجيكي من أعماقه يوم22 مارس عام.2016 غير أن الأمر أكبر من الذكري وإن كان مرتبطا بالتفجيرات وتوابعها التي لا تزال تخيم علي بلجيكا وأوروبا, وآخرها هجوم متحف اللوفر. في حلقة نقاشية نظمها في العاصمة البلجيكية مركز تريندز للبحوث والاستشارات, ومقره أبو ظبي, والمؤسسة الأوروبية للديمقراطية, طرحت إجابات علي أسئلة كثيرة أهمها: لماذا حدث ذلك لنا, ولماذا يجب أن نستعد للأسوأ؟ فعلي مدار ساعتين تقريبا من النقاش, رسمت صورة بالغة الكآبة لما يمكن أن تواجهه أوروبا مستقبلا بسبب شيوع التشدد الفكري بين مسلمي بلجيكا وأوروبا عموما. وحسب وصف الدكتور سعد العمراني, مفوض شرطة بروكسل ومستشار المفوض العام لشرطة بلجيكا للشئون الاستراتيجية, الظاهرة بأنها بالغة الخطورة لحد يستدعي تحركا سريعا لوضع استراتيجية أووربية موحدة شاملة. وبحكم عمله الأمني والبحثي وتعامله مع الكثير من المشتبه فيهم والمتهمين بالإرهاب, انتهي العمراني إلي أن مجتمعات موازية نشأت في أوروبا.. تقوم علي فكرة الولاء( لله) والبراء( من المجتمع). وقال العمراني, وهو من أصول مغربية, إن هذا المفهوم الخطير الذين ينتشر بين الشباب والصبية المسلمين يعني رفض التعايش مع اليهود والمسيحيين بل والمسلمين الذين يعتبرهم أصحاب هذا الفكر غير ملتزمين بالإسلام. إنها حرب أيديولوجية, تغير عقول الناس وتستغل عصر الاتصال الرقمي( الديجيتال), يحذر العمراني, الذي شارك في الندوة بصفته, كما قال, مواطنا أوروبيا مسلما يملؤه الخوف علي مجتمعه ودينه. ويضيف جماعات الإسلام السياسي( في بلجيكا وأوروبا) تنشط علي الأرض, تغير الأفكار, وتساعد في بناء المساجد, وتصدر الكتب, وتثب عبر قنوات تليفزيونية تستقبلها أجهزة استقبال صغيرة, وتضخ رسائل كراهية وعداء للمجتمع. واتهم الدكتور أحمد الهاملي, مؤسس ورئيس مركز تريندز للبحوث والاستشارات, جماعة الإخوان المسلمين بأنها وراء هذه الحرب الإيدولوجية. ووجه لوما شديدا لما يبدو انه سذاجة من حكومات الدول الأوروبية لأنها تسمح للإخوان وتوابعها من جماعات الإسلام السياسي بحرية النشاط السياسي والفكري بين الشباب المسلم في أوروبا. وأحد مظاهر هذه السذاجة هو, كما يقول الهاملي, أن الإخوان وغيرهم يتلاعبون بالديمقراطية ويوهمون الأوروبيين بأنهم معتدلون ويؤمنون بالدولة المدنية وحقوق الإنسان وقيم الحرية لكن هدفهم النهائي هو إقامة دولة دينية. ونصح الأوروبيين بأن ينتبهوا إلي شعار الإخوان وهم السيف, متسائلا هل مثل هذه الجماعات يمكن أن تؤمن بمجتمع مدني يقبل الآخرين من أصحاب الديانات الأخري والمختلفين معهم في فهم الإسلام؟. وأعطي العمراني مثالا بالوضع في مولينبيك, إحدي ضواحي بروكسل, التي ذاع صيتها كملجأ لعدد من منفذي والمتهمين بتنفيذ هجمات إرهابية في أوروبا بما فيها تفجيرات مارس عام2015 في العاصمة البلجيكية. يقول العمراني لو زرتم الضاحية التي لا تبعد سوي كيلومترات عن وسط بروكسل سوف ترون بأعينكم مجتمعا آخر. ومن مثل هذه المناطق يجب أن يبدأ البحث عن سبل فعالية لمواجهة أيدولوجية الإسلام السياسي, كما يقول العمراني, الذي لخص الحل في نهج ثلاثي الأبعاد. وفق هذا النهج, يتعين علي السلطات الأوروبية التخلي عن التركيز علي المعالجة الأمنية, فالمطلوب هو:أولا: التواصل مع رجال الشرطة وقادة الرأي والتأثير الذين علي تماس مع حياة الناس اليومية, ثانيا: معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية, ثالثا: العمل علي إصلاح الفكر والمجال الديني. ويبدو, للعمراني, أن أوروبا لم تدرك بعد أبعاد المشكلة التي تتعامل معها. ويقول: لا زلنا( في أوروبا) لم نحدد كل أسباب المرض, ولذلك لا يمكن أن ننجح في تحديد العلاج. وحذرالوقت ينفد.. والخسائر فادحة يوميا. لكنه متشائم ومحبط لأن أوروبا ليست مستعدة الآن لأن تضع استراتيجية موحدة فاعلة لمواجهة الخطر. ضرب محمد خدام العجمعي, الأمين العام لاتحاد السوريين في المهجر مثالا آخر لسذاجة أوروبا, متحدثا عن أوضاع المهاجرين السوريين في أوروبا. وقال إن جماعات الإسلام السياسي تستغل حاجة المهاجرين السوريين, وخاصة الشباب والصبية منهم. وتقول سلطات الهجرة الأوروبية إن السوريين الذين تدفقوا علي أوروبا خلال عام2014 بلغ نحو67 ألف شخص, يشكلون28 في المائة من إجمالي المهاجرين, ما جعلهم في دائرة الضوء. وانتقد خدام تركيز الحكومات الأوروبية علي مجرد توفر المأكل والمسكن للمهاجرين. وأضاف المهاجرون بحاجة إلي مساعدة للتكيف مع المجتمع الجديد الوافدين الذين الراغبون في العيش فيه; لأن البديل هو السقوط في براثن أصحاب الفكر المتطرف الانعزالي. وصدم العجمي الحاضرين والمشاركين في الندوة بالكشف عن أن هناك10 آلاف طفل علي الأقل لا يجدون بديلا سوي الذهاب إلي مساجد يديرها نشطاء إسلاميون يحملون أفكارا متشددة. هل يمكن الرهان علي جماعات الإسلام السياسي المعتدل في مواجهة دعاة التطرف في أوروبا؟. أجمع المتحدثون في الندوة, ومن بينهمالدكتورة روبيرتا بونازي, رئيسة المؤسسة الأوروبية للديمقراطية, علي أن اعتدال هذه الجماعات ليس سوي وهم في أذهان بعض الأوروبيين من السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين. وتساءل أحد الحضور: لماذا لا نفسح المجال لجماعات الإسلام السياسي غير العنفية لمواجهة أفكار التطرف؟. ورد المتحدثون: لو سألنا أنفسنا: ما هو الهدف النهائي لما تسمي بالجماعات الإسلامية المعتدلة, سنجد أنها تريد أن تقيم دولة دينية تقوم علي تفسيرات خاطئة عن الإسلام الذي لم يحدد قرآنه ولا نبيه شكلا للدولة أو الحكم, وذلك هو هدف تنظيمات مثل داعش. وطرحت الدكتورة بونازي تساؤلا آخر: هل يمكن السماح للجماعات ذات الأفكار النازية التي لا تدعو للعنف بأن تنشط بحرية في مجتمعاتنا الأوروبية. وقالت أظن أن الإجابة معروفة.