في المومياء هذا الشريط المذهل في لغته ومحتواه بدا الموت في مشاهده, والتي تعود إلي بدايات القرن المنصرم طقسا مهيبا, الرجال في ثيابهم التقليدية وقد تحلت رؤسهم بالعمامات والشيوخ منهم استندوا إلي عصي بدت رموزا تعكس المكانة الاجتماعية أكثر منها أشياء يتم التوكؤ عليها وعشرات من النساء المتشحات بالسواد ينتحبن يولييين في صمت أبدي لفقيد رحل, وعندما حانت لحظة رحيل كوكبة من المومياوات كان الوداع الأليم أنهم الأجداد وها هم الاحفاد نساء ورجالا يصطفون في موكب حزين ونظرة أخيرة علي الأحباب وكأنهم كانوا معهم بالأمس القريب وليس من مئات السنين. كان هذا ماضيا بعيدا وللحق ظل الوفاء وجلال الفراق موجودا إلي وقت قريب نسبيا, بيد أن الصورة تبدلت وبات كل واحد ينعي همه أن أمينة رزق في بداية ونهاية لم تكن نظراتها الشاردة بسبب فقدانها لزوجها كامل أفندي لقد ذهب إلي ربه أما جل همها فانحصر في المعاش ووقته الطويل إلي أن تتحصل عليه, في فيلم لا تطفيء الشمس المأخوذ عن رواية طويلة للراحل إحسان عبد القودس كانت بداية ظهور ما يمكن تسميته عزاء النميمة والتطفل والفضول وهي سمات صارت توجد وتتسع شيئا فشيئا إلي أن اصبحت ظاهرة, الكل يرفضها ويندد بها, والكل أيضا يفعلها ويشارك فيها بل ويباهي بها, أنه الحال المروع والذي اتسع بصورة مرعبه غير أن الشئ الملفت, هو أن السينما صالت وجالت في كل مناحي الحياة تنقب وتحلل وتعكس أمراضا شتي تتغلغل في نسيج مجتمعنا ولم يعد هناك إجمالا تابو, أو قدس الأقداس, ورغم كل ذلك لم نر ما نحن بصدد طرحه تحت عنوان' العزاء خمسة نجوم', علي شاشتنا تري ما المانع وعلي أي حال سطورنا القادمة نهديها إلي صناع تلك الشرائط سواء كان مقاس35 ملي أو16 أو لهواة الكاميرا ديجتال لعل وعسي تتصدي عين لهذا النفاق الممجوج. صالونات العزاء فرصة لالتقاط الأنفاس والحديث عن الغد, وسعر الدولار والجنيه, وأين تمضي أجازتك, يا لها من قرية ساحرة تلك الواقعة علي شاطئ البحر الأحمر في الغردقة, فيرد آخر ليقول: إنني مازلت أفضل الساحل الشمالي, وثالث يقاطع ويقول:' إن الجنة في جنوب سيناء', وتدريجيا ينسي الناس المناسبة التي جاؤوا من أجلها, لقد ذهب المرحوم وهو الآن بين يدي الله, دع الملك للمالك! هذا جانب واحد من الصورة.. الجانب الأخطر هناك في صالونات العزاء بالنسبة للنساء, إنه عالم أسطوري بألف ليلة وليلة. نعم.. فصالونات العزاء أصبحت فرصة نادرة لمشاهدة أحدث الأزياء في عالم الموضة, وسماع أسماء مثل شانيل, كريستيان ديور, ايف سان لوران, فالنتينو.. إلخ. أما الإكسسوارات والمجوهرات من الألماس والأحجار الكريمة فحدث ولا حرج.. كل هذا في صالون عزاء واحد, وفي قلب القاهرة نفسها التي تعاني من جملة مناطق عشوائية علي أطرافها. إن الزائر لهذه الصالونات ربما يشك أنه في القاهرة. ورغم أن الأسود هو اللون الذي لا يمكن أن يري غيره في تلك المنتديات عفوا صالونات العزاء, ولكن يا له من لون, تنويعات من تدرجات الأسود المختلفة الملمس, والماركات بطبيعة الأحوال, تجدها علي النساء اللاتي يحضرن لتقديم واجب العزاء, حتي ولو كان المتوفي عزيزا علي القلب, وهذا حال الدنيا, فلا بأس من الشياكة وإثارة حفيظة الأعين الحاسدة, وحتي لا نكون مبالغين أن هذه المسالة باتت غير مقصورة علي أصحاب المال والجاه, بل تعدت لتصل إلي الفقراء.. مع الفارق, في الأولي ملابس ومجوهرات وفي الثانية المضمون نفسه مع اختلاف الشكل.ولم تترك ضغوط الحياة ومشاغلها وسعي البشر نحو المال والعمل مجالا للالتقاء. من هنا جاءت أهمية صالونات العزاء في مصر, فالصديقات أصبحن لا يتقابلن إلا فيها. النوادي ازدحمت والشوارع مكتظة بالسيارات وأمور' البزنس' غطت علي كل أوقات المناسبات الإنسانية. و السؤال: الأحزان ذهبت بالفعل,وهل ذهب الوفاء أيضا؟ أم هو الواقع المرير, الذي بات يفرض علينا قيمه وأفكاره وتصوراته, إنه العبث أو قل إنها المأساة المروعة. إن صموئيل بيكيت رائد مسرح العبث هو الحاضر الغائب في تلك الصالونات. إنها فانتازيا ولكنها فانتازيا واقعية. وإذا أراد أحد أن يري بنفسه وعلي الطبيعة فالأمر لن يكون عسيرا, فقط عليه أن يبذل قليلا من الجهد بعدها سيجد نفسه في واحد من تلك الصالونات التي هي عالم مستقل بذاته, مليء بالتفاصيل. حيالها لا يعرف المرء هل يبكي أم يضحك ؟ أم أن يسخر وهو يسمع قصصا وحكايات ما انزل بها من سلطان ولتكن تلك الرواية. سيدة ما, تقطن أحد الاحياء الراقية دون ذكر اسمه, جاءها خبر وفاة قريب لها, وبالتالي عليها أن تؤدي الواجب, ولأن الوقت ضيق, هكذا قالت بينها وبين نفسها, فقد كلفت خادمتها أن تتصل بالكوافير فورا, وتخبره بأنها ستكون عنده قبل نصف ساعة, الطريف أن الخادمة كانت تعرف المطلوب منها دون أن تخبرها سيدتها وكأنها آلفت مثل تلك الحوادث والطقوس المصاحبة لها, وعند المصفف الذي بادر بالتحية, قالت له عزاء طارئ لم يكن علي البال, وهو الاخر كان يعلم ما سيقوم به, فلابد أن تكون تسريجة شعر سيدته وهي زبونة عزيزة علي خير ما يرام وقد كان لها ما ارادت, وعندما عادت إلي منزلها كانت الملابس التي سترتديها قد أعدت بدءأ من الجيب السوداء, ماركة ايف سان لوران, مرورا بالبلوزة الشيفون السوداء التي أحضرتها من لندن و البالطو الفيزون وأخيرا الحذاء الأسود الذي اشترته من جوريج وحسنا لم تنس الخادمة الشنطة جلد التمساح السوداء. كانت الساعة تقترب من السابعة مساء حينما اصطفت مجموعة من السيارات الفاخرة أمام قاعة العزاء, اقتربت سيارتها المرسيدس الفاخرة بلونها الأحمر الداكن من الفيلا, وما إن رآها البواب حتي هرع إليها ليفتح لها باب السيارة قبل أن يقوم السائق بذلك, ونزلت في تمهل واضح وعلي كتفها البالطو الفيزون, بحق كانت في أبهي صورها, ودخلت باب الفيلا يسبقها البواب ليعلن عن وصولها, والتفتت أعين النساء الجالسات في بهو الفيلا الأنيق نحو القادمة, وكأنها نجمة سينما, وكانت قد تعمدت أن تأتي متأخرة حتي تضمن أن كل المعزيات قد جئن إلي العزاء, لكي تقنع نفسها بأنها ستكونة نجمة هذا العزاء أو نقول هذا الحفل!! لقد يبدو أن ما خافت منه وجدته ماثلا أمامها فلم تكن هي آخر من حضر فسرعان ما هلت قرينة لها يسبقها عطرها النفاذ(poision) الفرنسي إنتاج ايف سان لوران, ولم تنته المفاجآت عند هذا الحد فقد اشتعلت غيرة وهي تري التايير الفالنتينو الذي كانت ترتديه والبالطو المنك. وبقدرة قادر تحول صالون العزاء إلي تجمعات, وتدريجيا تعالت الضحكات الخفيفة, وصارت الألفة وظهر الود والشوق, وانفض المولد وشوهدت السيدة بعد عشرة أيام تحضر عزاء لزوج إحدي صديقاتها ولم تنس أن تذهب متأخرة علي أمل أن تكون آخر الحاضرات, ولكن أسدل الستار.. ولا عزاء للسيدات.