قدم لنا القرن العشرون نموذجين مختلفين لأسباب قيام الحروب العالمية..النموذج الأول هو حرب المصالح التي تقوم بين أقطاب متشابهين وهذا ما أنتج الحرب العالمية الأولي التي كانت بين إمبراطوريات تتصارع علي مناطق النفوذ والمواد الخام والأسواق ومقومات الثروة..مع وجود مساحات شاسعة من الفراغ السياسي في خريطة العالم تتكالب الدول العظمي وتتصارع من أجل السيطرة عليه. والنموذج الثاني هو حرب الأضداد المتنافرين أو صراع الأيديولوجيا والنظريات المتعارضة التي تفترض كل منها أن تقصي الآخر تماما وتفرض عليه رؤيتها وهو النموذج الذي قامت عليه الحرب العالمية الثانية. ربما يكون الوضع العالمي الآن أكثر شبها بحالة ما قبل الحرب العالمية الأولي.. صراع الأقطاب: إمبراطوريات تتصارع علي مناطق النفوذ والمواد الخام والأسواق ومقومات الثروة..مع وجود مساحات شاسعة من الفراغ السياسي في خريطة العالم تتكالب الدول العظمي وتتصارع من أجل السيطرة عليه..ومثل سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولي عندما كان الصراع بين قوي اقتصادية وصناعية تقليدية تقودها بريطانيا التي استقرت طويلا في مركز الصدارة وقوي اقتصادية وصناعية صاعدة تقودها ألمانيا التي تبحث عن نصيب في كعكة النفوذ والربح والغنائم..مع وجود أقطاب أخري مثل الخلافة العثمانية المريضة وروسيا القيصرية المتهالكة وفرنسا الباحثة عن استعادة المكانة وإمبراطورية النمسا والمجر القادمة من العصور الوسطي. يمكن تشبيه ذلك الصراع بما يجري في عالم اليوم بين الولاياتالمتحدة المسيطرة والصين الصاعدة وروسيا الباحثة عن استعادة المكانة والاتحاد الأوروبي المتصدع وعشرات القوي الإقليمية التي تبحث عن مكان ومكانة لها علي هذا الكوكب المثقل بالهموم..ولكن مهما بدا هذا الصراع محموما فهو بين أقطاب متشابهة وليس بين أضداد متنافرة..حيث لا يوجد اختلاف من ناحية النظم الاقتصادية بين كل هذه البلدان التي تبدو وكأنها قد انتصرت أخيرا لآدم سميث وودعت كارل ماركس بلا رجعة. ففي القرن الحادي والعشرين لم يعد هناك اختلاف أيديولوجي حقيقي بين الشرق والغرب ومن المهم أن ندرك أهمية غياب الصراع الأيديولوجي بين أقطاب العالم ونحن نحاول أن نقرأ ما الذي يقدم العالم عليه خلال السنوات القليلة القادمة. فصراع الأيديولوجيات الذي خلق الحرب العالمية الثانية جعلها أكثر ضراوة بكثير من صراع النفوذ والمصالح الذي صنع الحرب العالمية الأولي..كانت الحرب العالمية الثانية صراع حياة أو موت:حرب حتي آخر رصاصة وآخر مبني وآخر قطرة من الدماء..ولذلك فقد انتهت بدمار شامل وواسع سواء في أوروبا أو في اليابان. علي العكس من الحرب العالمية الأولي التي انتهت وعند معظم الأطراف المتصارعة في الجانبين جيوش كاملة مازالت قادرة علي القتال في خطوط المواجهة ولكن الدول المتصارعة وجدت أن تكلفة القتال أصبحت أكبر من أرباح المصالح الناتجة عنه. إذا..فغياب الصراع الأيديولوجي قد يبشر بحروب أقل عدمية بين الأقطاب المتشابهة التي تمتلك كلها قوة الردع النووي..وقد يفرض محاولات لتجنب الحرب الشاملة والبحث عن ميادين فرعية إقليمية للتنفيس عن الغضب واستعراض القوة وممارسة لعبة العض علي الأصابع بين الأقطاب للحصول علي أكبر قدر ممكن من المكاسب والنفوذ. فكيف يمكن أن نتخيل شكل المواجهة القادمة بين أقطاب العالم في المستقبل القريب..هذه المواجهة التي تبدو نذرها وبوادرها في الأفق ولكنها في شكلها وتفاصيلها تبدو بعيدة كل البعد عن شكل وطبيعة الحرب العالمية التي اندلعت مرتين في القرن العشرين. إنها مواجهة عالمية تليق بعصر ما بعد الحداثة والقرن الحادي والعشرين..ولكنها تحتاج إلي قراءة جديدة لشكل العالم الذي يتشكل من حولنا ويخدعنا بتفاصيل كثيرة تجعلنا نلهث ونحن نلاحق التغيير.. وللحديث بقية.