الأمانة, كلمة قد تبدو في ظاهرها بسيطة, ولا تحتاج إلي تفسير أو تأويل, ولكن من يتعمق في معناها, يكتشف عمقها, وأنها ليست مجرد كلمة تعني الصدق والإخلاص, وإنما هي في الواقع المعني الحقيقي للمسئولية والقدرة علي قول الحق, حتي لو تسبب في إيذاء صاحبه, فالشخص الأمين هو من يقدم أمانته علي جميع مكاسبه, فالخسارة تكون بالنسبة له هي خروجه علي مبادئه, وإتيانه بتصرفات لا تتناسب وأخلاقياته. فالأمانة من المفترض أنها جزء لا يتجزأ من أخلاقيات الإنسان وسلوكياته, فهي تتعايش معه وتعبر عن تصرفاته, ولكن للأسف, أغلبنا يظن أن الأمانة نسبية, وتختلف من شخص لآخر, ومن موقف لآخر, وأن الرغبة في تحقيق النجاح والمكاسب قد تضطر البعض إلي استعمال التحايل من أجل الوصول لأهدافهم, ولكن في الواقع أن الأمانة تحديدا لا تخضع لقاعدة النسبية; لأنها تنبض بضمير الإنسان, وتعبر عن مكنون صدره, وجوهر قلبه. وهناك قصة تحكي عن أنه كان في القرن الثالث, أحد الأمراء في الصين علي وشك أن يتوج إمبراطورا, ولكن وتبعا للتقاليد كان عليه أن يتزوج مسبقا, فقرر الأمير أن ينظم مسابقة بين فتيات البلاط; لاختيار الزوجة المناسبة, فسمعت بالمسابقة ابنة إحدي الخادمات اللواتي يعملن في القصر, وقررت المشاركة رغم ممانعة والدتها, التي قالت لها إن حظوظها معدومة; لأن المشتركات جميعهن من بنات الأغنياء والنبلاء, ولكن الابنة التي كانت مغرمة بالأمير, أقنعت والدتها بأنها تعلم ذلك, ولكن كل ما تبغيه هو أن تكون بقرب الأمير, ولو لفترة قصيرة. وفي اليوم المقرر للمسابقة, وصلت الفتاة إلي القصر ورأت الفتيات الجميلات بثيابهن وجواهرهن الجميلة, وما لبث الأمير أن أعلن التحدي قائلا: سأعطي كلا منكن بذرة, والتي تعود إلي بعد ستة أشهر بأجمل زهرة تصبح زوجتي وإمبراطورة الصين المقبلة. فزرعت الفتاة الفقيرة البذرة وأحاطتها بحبها وعنايتها, واستخدمت بصبر كل ما تعرفه عن الزراعة والزهور, إلا أن البذرة لم تنبت شيئا, ويوما بعد يوم كانت آمالها تتبخر, حتي مرت الشهور الستة, دون أن تعطي البذرة أي نتيجة. وفي اليوم الموعود, أصرت الفتاة علي الذهاب مقنعة والدتها مرة أخري بأن كل ما تريده هو رؤية الأمير عن قرب مرة أخري, حتي لو لم تفز في المسابقة, وعندما وصلت إلي القصر حاملة أصيص الورد الخالي, رأت بقية الفتيات يحملن جميعا أجمل أنواع الزهور, وأشكالها وألوانها, وعندما حان الوقت, بدأ الأمير يتأمل كل فتاة بانتباه ودقة, وبعد أن استعرضهن جميعا, أعلن أن الفتاة الفقيرة هي التي فازت في المسابقة, وأنها سوف تصبح زوجته وإمبراطورة الصين, وكان ذلك وسط دهشة الحاضرين, الذين تساءلوا عن سبب فوزها, رغم أنها الوحيدة التي لم تتمكن من إنبات البذرة, عندها قال الأمير: الوحيدة الجديرة بأن تكون إمبراطورة, هي التي زرعت زهرة الأمانة; لأن جميع البذور التي وزعتها كانت بذورا عقيمة. وبالفعل, فالأمانة هي زهرة لابد أن نزرعها ونرويها بداخلنا; حتي لا تذبل تدريجيا دون أن ندري, فللأسف, تقلبات الحياة ومتغيراتها, وما يمر به الإنسان من ضغوط وآلام ورهبة من خسائر الحياة, قد تجعله ينحي أمانته جانبا, أو يحاول فلسفتها, بما يتماشي مع مصالحه, وتدريجيا تذبل الزهرة, حتي تموت, وهنا لن نستطيع أن نحييها مرة أخري; لأن زهرة الأمانة مرتبطة بالضمير والسلوك, ولو جبل الإنسان علي تهميشها, فلن يستطيع استعادة هذا السلوك ثانية, وللأسف, أي مكاسب سيحصدها لن تكون ذات قيمة بجانب خسارته لأهم صفة إنسانية لو انعدمت بداخله, فلا مناص من أنه سيكون قد خسر نفسه إلي الأبد, فارووا زهرة الأمانة; حتي لا تموت.