لا أدري متي سوف يأتي الوقت الذي نبدأ فيه الحديث الجاد حول الدستور المصري الجديد. الثورات تأتي وتذهب, ولكن لا تجري مأسستها إلا ساعة أن تنتج دستورا جديدا يجسد مبادئها ويحولها إلي نظم ومؤسسات. لقد كانت هناك خلافات كثيرة حول الطريق الذي نطرقه حتي نصل إلي هذه النقطة, ولكن النخب المصرية كلها التقت دوما علي الحاجة إلي دستور جديد يخلصنا من شذوذ الدستور القائم, وتناقض بنوده, واختلاط المبادئ التي يقوم عليها, وتكريسه في العموم للدولة شديدة المركزية التي عشنا تحت ظلها وأعطت لرئيس الجمهورية من السلطات ما كان لدي الملوك والأباطرة. الحديث الجاد حول الموضوع ضرورة فلن يبقي وقت طويل حتي نواجه القضية; وعندما تأتي الجماعة المنوط بها وضع الدستور فإن عليها أن تعتمد علي تراث من التوافق والنقاش حول موضوعات كثيرة. هذه المرة سوف أركز علي موضوع واحد وهو نوعية النظام السياسي الذي نعيش في ظله. وليس سرا علي أحد أنني من أنصار النظام الجمهوري الديمقراطي. وقد كان هناك ادعاء سائد بأن ذلك كان هو النظام الموجود في مصر من قبل; وعندما قلبت في أوراقي القديمة وجدت مقالا نشر في صحيفة نهضة مصر الغراء يوم الخميس20 إبريل2006 تحت عنوان' الرئاسة والرئيس' أوضحت فيها مثالب النظام القائم آنذاك والتي يجب أن نتلافاها في النظام الجديد جاء فيه: خلال فترة المراجعة الحالية لكثير من مؤسساتنا السياسية سواء ما تعلق منها بقضية الإصلاح السياسي عامة أو الإصلاح الدستوري خاصة لا بد من مراجعة وفحص لمؤسسة الرئاسة لأنها في النهاية هي الإطار المحيط بالمنصب الرفيع لرئيس الجمهورية والمساعد له علي عملية اتخاذ القرار. ورغم ترابط كليهما الرئاسة والرئيس من الناحية العملية إلا أن التمييز بينهما ضروري للغاية, فسواء كان النظام المصري جمهوريا رئاسيا أو كما جرت العادة علي وصفه بالنظام' البرلماسي' أي الجامع ما بين الجمهورية الرئاسية والجمهورية البرلمانية فإن مؤسسة الرئاسة تظل لها مكانة خاصة نظرا لأنها في ظل المكانة الخاصة للرئيس, والسلطات التي يلقيها الدستور علي عاتقه, فإنه يحتاج لكثير من أشكال المعاونة الفنية وسط دروب من المسارات التي تقدمها له البيروقراطية, ووسط فيض من المعلومات التي يستحيل التعرف عليها وفرزها ما لم تكن المؤسسة جاهزة لهذه المهمة بالخبراء والمصادر. وفي الولاياتالمتحدة فإن مؤسسة الرئاسة أو ما يطلق عليها اختصارا البيت الأبيض تشكل واحدة من المؤسسات السياسية المهمة التي يعاد تشكيلها مع كل رئيس للجمهورية وتأتي عادة من هؤلاء الذين شاركوه مسيرته السياسية وتابعوا وآمنوا بأفكاره ومبادئه وتوجهاته الاستراتيجية العامة. ويعتبر كبير موظفي البيت الأبيض أشبه برئيس الوزراء الفعلي لأنه القائم علي عملية التنسيق والمتابعة بين الأجهزة التنفيذية المختلفة من خلال جهازين يقوم واحد منهما مجلس الأمن القومي بالمتابعة والإشراف علي السياسة الخارجية والدفاعية للدولة, والآخر مكتب الموازنة والذي يخص متابعة الأمور الداخلية. ومثل هذه المجالس وأعضائها والمشرفين عليها ليسوا ممن علي الكونجرس الموافقة عليهم كما هو الحال مع أعضاء الحكومة, ولكن مهمتهم الرئيسية هي التنسيق والمتابعة والتأكد من أن توجهات الرئيس قد تم اتباعها, وفي نفس الوقت تغذية الرئيس بالأفكار وإعداده لعملية الحكم المعقدة والمتشعبة التفاصيل التي تستحيل علي عقل إنسان متابعتها. وفي الحالة المصرية, ورغم السلطات المهمة التي خولها الدستور لرئيس الجمهورية, فإنه لا توجد سوي إشارات ضئيلة لمؤسسة الرئاسة فيما عدا إشارة لمجلس الأمن القومي, وإشارات أخري متناقضة تخص منصب نائب رئيس الجمهورية فتترك لرئيس الجمهورية حق تعيينه أو عدم تعيينه, ثم بعد ذلك يوكل له عدد من المهام المحددة في حالة خلو منصب الرئيس. وفيما عدا ذلك فقد ترك تنظيم المؤسسة لكل رئيس علي حدة, ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر تم إنشاء مكاتب في الموضوعات التي كانت تهم الرئيس مباشرة مثل مكتب الشئون العربية أو مكتب الشئون الإفريقية أو مكتب المعلومات. أما في عهد الرئيس السادات فقد انتهي العهد بهذه المكاتب وحل محلها عدد هائل من المستشارين الذين لم تكن معلومة وظائفهم علي وجه التحديد وكثيرا ما كان تعيينهم نوعا من التكريم أحيانا أو العقاب أحيانا أخري. وفي عهد الرئيس حسني مبارك وخوفا من الصورة المظهرية لمنصب مستشار رئيس الجمهورية, أو خوفا من تكوين مراكز للقوي, فإن الرئيس لم يحتفظ إلا بالدكتور أسامة الباز كمستشار سياسي بجوار الرئيس في عدد من القضايا, ولم يكن له مكتب معاون بالمعني الفني للكلمة. وفي الوقت نفسه حرص الرئيس علي العلاقة المباشرة مع رؤساء الأجهزة التنفيذية المختلفة, بالإضافة إلي شبكة واسعة من الاستشارات مع مجموعة غير قليلة من الخبراء. وفي أوقات الأزمات اعتمد الرئيس علي ما سماه' المجموعة السياسية أو علي مجموعة محدودة من المسئولين لإدارة الأزمة. مثل هذا الأسلوب كان ملائما لفترة طويلة, وبالفعل فقد منع قيام مراكز للقوي, ونجح في معالجة أزمات حيوية, ولكن المعضلة هي أن القضايا المختلفة تتعقد وتتفرع وتتشابك إلي الدرجة التي لا يمكن استيعابها استيعابا منظما دون مجالس متخصصة قريبة من الرئيس وقادرة علي فرز الاختيارات المختلفة وطرحها علي الرئيس في الوقت الملائم. وربما كان ما لا يقل أهمية عن فهم الموضوعات المختلفة وفرزها القدرة علي طرح الأسئلة والحصول علي إجابات من المؤسسات المصرية المختلفة والضالعة في مجالات السياسة الخارجية والداخلية بل وحتي مد اليد إلي باقي مؤسسات المجتمع لاستطلاع آرائها وتوجهاتها. وفوق ذلك كله تحقيق التراكم التاريخي اللازم في التعامل مع موضوعات وقضايا وأزمات مختلفة, بمعني آخر تحقيق تراكم زمني مسجل ومتاح من الخبرة السياسية للرؤساء القادمين والأجيال القادمة.' كان ذلك هو الرأي الذي أبديته قبل عام من التعديلات الدستورية التي جرت في عام2007, وللأسف لم يجر فيها تبني وجهات النظر هذه في ذلك الوقت. والأرجح أن جزءا من تخبط النظام السابق وعجزه عن متابعة ما يجري في البلاد كان راجعا إلي تلك الحالة من قوة الرئيس التي جعلت كل من كان قريبا منه عاجزا عن مصارحته بالحقائق المرة التي كان ممكنا التعبير عنها من خلال مؤسسات واضحة المعالم والسلطات. أكثر من ذلك أن وجود هذه الطبيعة المؤسسية لمؤسسة الرئاسة كان سينزع عنها الصفات الفردية التي فتحت الباب لكارثة' التوريث' التي التصقت بالنظام كله وباتت جزءا من الحملة الإعلامية عليه حتي نزعت عنه كثيرا من شرعيته. فمع وجود رئيس لديه من سلطات الرئاسة ما قال عنها الأستاذ طارق البشري ذات مرة إنها أقرب إلي سلطات أئمة الشيعة وأمراء المؤمنين فإن فكرة التوريث تصبح إمكانية مطروحة مهما حاول الرئيس نفيها عدة مرات دون تصديق من جانب الإعلام. ومع غياب المصداقية التي جاءت من هذا الموضوع, بالإضافة إلي موضوعات أخري, فإن الإطاحة بالنظام كله باتت ممكنة. والآن وقد أصبح موضوع الدستور كله مفتوحا من جديد, وأننا لا نتحدث عن تعديلات دستورية وإنما عن دستور جديد, فإن النظام الرئاسي لا يكتمل ما لم يعبر عن' رئاسة' قوية حيث الرئيس هو قائد السلطة التنفيذية والقائد الأعلي للقوات المسلحة. صحيح أن الرئيس واقع تحت الرقابة اللصيقة للمجالس التشريعية التي تمتلك تخصيص الأموال وتوزيعها علي المشروعات التي تراها ملائمة وتوافق عليها, كما أنها هي التي تصدق علي كل قيادات السلطة التنفيذية, إلا أنه في النهاية هو الذي يضع وينفذ الاستراتيجيات العليا في البلاد. علي أي الأحوال دعونا نبدأ فتح الموضوع, والبحث في جوانبه المختلفة, حتي نصل في النهاية إلي دستور يليق بمصر ويجعلها ديمقراطية وذات كفاءة ترفع مكانتها بين الأمم. [email protected]