في ظل دعاوي التطوير والتقدم لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية تشمل كل المجالات في مصر, يراهن وزير الثقافة الدكتور عماد أبو غازي كما اعلن في مؤتمر صحفي الاسبوع الماضي علي قيمة الصناعات الثقافية كمصدر جديد لتمويل العمل في وزارته.وبطبيعة الحال لا يمكن إنكار أهمية الصناعات الثقافية من خزف وفخار ومشغولات وزجاج وازياء شعبية وغيرها, لكن هذه الصناعة لاتزال تعتمد في أرباحها علي الخارج, وليس الداخل. غير ان هذا المصدر علي الرغم من غناه الحضاري, الا انه بات مهددا ا لان هذه الصناعات ذاتها معرضة للإندثار, كما يكشف عن ذلك التحقيق التالي: في البداية يؤكد الفنان محمد عبلة أن وزارة الثقافة تصورت انها تصنع انتاجا ثقافيا لكن هذا الأمر اثبت فشله, لأن كل المراكز المنتجة للحرف فيها عدد الموظفين أكبر من المنتجين, وبالتالي فالارباح لو وجدت تحولت الي مرتبات لهم, هذا بالاضافة إلي الفساد الاداري وانعدام الشفافية. وطالب عبلة وزارة الثقافة أن ترفع يدها تماما عن الإنتاج الثقافي, ويتحول لدعم المؤسسات الاهلية التي تنتج ثقافة فنية مثل الخزف والزجاج والنسيج وغيرها, ويمكن ان تلعب الوزارة دور الداعم والمشتري فقط, إذ تشتري المنتجات مثل المسرحيات وتعرضها علي مسارحها. واقترح عبلة أن تتم اعادة هيكلة كاملة لقطاع الانتاج الثقافي في الوزارة, موضحا ان الحرفيين لايذهبون للوزارة ويفضلوا الذهاب لورشهم, ويكتفون بدفع رشوة لتبرير غيابهم, فهم يفضلون العمل خارج الوزارة, ولمواجهة هذا لابد من نشر دعوة قومية لشراء الإنتاج المصري من تلك الصناعات. ودعا عبلة لتقليص عدد الموظفين في مقابل عدد الحرفيين لتجنب الرشاوي واهدار المال العام, فضلا عن تطوير العمل في المتاحف أو المعارض واصدار كتالوجات مطبوعة تضم الاعمال الفنية المعروضة, وهذا الكتيب يكلف الوزارة عشرة اضعاف حقه, فأي متحف بالخارج يعد خطة للهدايا, وينفق عليها من خلال نشاط السوق وهذا جزء من العمل مع القطاع الخاص الذي يقدم عروضه ويتم اختيار الافضل. ومن جانبه أوضح الناقد أسامة عفيفي أن المشكلة الرئيسية التي لا ينتبه لها الكثيرون تكمن في لائحة وزارة الثقافة التي تمنع بيع المنتجات التي تنتجها المراكز الحرفية التابعة لها, ولأنه لايوجد بيع, فالعمالة تأخذ أجورا قليله وبالتالي تهرب للاسواق في خان الخليلي وغيرها, لذا لابد من سن تشريع يسمح ببيع هذه المنتجات خصوصا انها أجود واقل تكلفة من المعروض في السوق, ومن الضروري كذلك أن يكون للعاملين مرتبات ونسبة من البيع. وحسب عفيفي لم تكن هناك خطة طوال السنوات الماضية لتطوير هذه الحرف رغم ان هناك مبدعين علي رأسهم الناقد والفنان عز الدين نجيب قدم مشروعا لإقامة مدينة للحرف الشعبية للوزارة لكن لم يكتمل, لانه لايوجد اهتمام حقيقي بهذه الصناعات بدليل فصل مركز الخزف بمنطقة الفسطاط الذي انفق عليه الملايين عن قطاع الفنون التشكيلية وضمه لصندوق التنمية الثقافية وهو ليس جهة ادارية بل جهة تمويل, والكثير من المؤسسات الثقافية بها اعمال حرفية مثل الثقافة الجماهيرية والصندوق والفنون التشكيلية لذا هذه الصناعة مهدور دمها علي اكثر من جهة, والحل هو انشاء جهاز خاص لهذه الصناعة يشرف عليه متخصصون في التراث الشعبي, اذ لابد من جمع الكوادر في وزارة الثقافة جميعا في قطاع مستقل له لائحة خاصة بالاجور والحوافز وتشريع يتيح بيع منتجاتها. ويشير عفيفي للدور الاجتماعي لهذه الحرف قائلا عندما نعلم الشباب الذي لم يكمل تعليمه احدي هذه الحرف نكون قدمنا شيئا مفيدا خصوصا ان هناك مدارس متنوعة في كل محافظة في اخميم والمنيا والقليوبية وغيرها, اذ لايوجد تعليم للأجيال الجديدة داخل المؤسسات, أصغر واحد فيها عمره لايقل عن40 عاما وأتحدي أن يكون تم تعليم حرفيين جدد منذ أكثر من عشرين عاما في المؤسسات الثقافية. واذا دمجنا مشروع الحرف الصغيرة الذي كان يعطي للمحاسيب في هذه الصناعة سوف تنطلق بالتراث الشعبي للعالمية, وبذلك يتيح لها عمل معارض خارجية بدل ان نستورد من الصين منتجاتنا الشعبية لانها ارخص, ويجب أن تضم المعارض التي تنظمها الدولة مثل معرض الكتاب وسوق القاهرة الدولي جناحا للمنتجات الحرفية, ويصبح للمراكز الحرفية فروع تنمي الصناعة التي ستنقرض مع الوقت وآن الاوان للحفاظ عليها. وأكد عفيفي أن وزارة الثقافة هي التي يجب ان تدير القطاع الذي يضم كل الصناعات الثقافية, فمسئولية الدولة هي الحفاظ علي التراث الوطني, وأن يشرف عليه الجهاز المركزي للمحاسبات, فلا فرار الان من مشروع قومي شامل للنهوض بالحرف الشعبية, وأن تكون هناك مؤسسة قومية للحفاظ علي التراث الوطني. واتفق الناقد والفنان عز الدين نجيب مع عفيفي قائلا إنه في بلد مثل مصر لا مفر من قيام الدولة بمسئولية هذا القطاع الإنتاجي, فيكفي أن نقارن بين فترة الستينيات وهذه الفترة من الألفية الثالثة في اشراف الدولة علي مجال الإنتاج الثقافي لمعرفة الفارق الذي يعود علي الشعب, وأخص بالذكر قطاع الحرف التقليدية فهو من ناحية يمثل استثمارا للموروث الثقافي للشعب المصري, واحياء الهوية والأبعاد الحضارية التي تترجم في المنتج الحرفي في أعمال يقبل عليها السائح الاجنبي كما يقبل عليها المواطن أيضا, لانها جزء من هويته الثقافية. ويذكر نجيب أن فترة الستينيات شهدت مراكز حرفية كثيرة بكل فروعها من معدنية ونسيج ومشغولات وازياء شعبية وغير ذلك, مما تبعه من رواج كبير في الداخل والخارج وعملت علي تشغيل آلاف العاملين نظرا لسهولة التدريب وارتباطه بالعادات والثقافات في كل منطقة جغرافية بالدولة. أما اليوم حسب نجيب فقد أوشكت كثير من هذه الحرف الشعبية علي الإندثار وتوقف آلاف الحرفيين عن العمل أو عن توريث أبنائهم لحرف عاشوا عليها وتوارثوها عن اجدادهم, وبالرغم من وجود هياكل شكلية في بعض الإدارات الحكومية لمثل هذه الحرف بوزارة الثقافة وغيرها فانها في الحقيقة هياكل خالية من المضمون لمجرد الحفاظ علي ديكور او شكل اجوف, وقد عملت سنوات طويلة مسئولا عن هذا القطاع بالوزارة وحاولت قدر المستطاع حماية عشرات الحرف من الإندثار عن طريق ورش العمل ومعارض ودورات تدريبية لأجيال جديدة. وأشار نجيب إلي المجهود الذي قام به بانتزاع ميزانية من وزارة الثقافة لتطوير هذا المجال حتي أصبحت وكالة الغوري بالازهر منارة مشعة لهذا النشاط وترددت اصداؤها في شتيء دول العالم وأكملت هذه المراكز الحرفية بإنشاء جمعية أصالة برعاية مركز الفنون التراثية والمعاصرة عام1994, التي بقت وحدها اليوم تحمل الراية وتواصل الرسالة بعد أن تمت تصفية أغلب المراكز الحرفية من العاملين فيها بل ونقلها لأماكن نائية. ويكمل نجيب موضحا اذا كان لوزارة الثقافة فيما بعد ثورة25 يناير اولويات يجب ان يكون علي رأسها الحفاظ علي هذه الحرف وتطويرها واستثمارها, لأنها القطاع المظلوم في قطاعات العمل الثقافي من عشرات السنين, وهذا كفيل أن يدر عائدا اقتصاديا هائلا علي الدولة لو وضعت له مخططات ومشروعات علمية مناسبة وكفيل ايضا بتوظيف قدر ليس بقليل من الأيد العاملة ليخفف من مشكلة البطالة. وتقدم نجيب بنداء خاص لوزير الثقافة د. عماد أبو غازي بزن يعيد النظر في مشروع إقامة مدينة للحرف التقليدية في منطقة الفسطاط التي تم اقراره في مبادرة من نجيب في تسعينيات القرن الماضي, واقيمت بعض اجزاء منه هي مركز الخزف ومركز الحرف التقليدية بينما تبقي مساحة60 ألف متر مربع مخصصة لهذا المشروع وعليها نصب تذكاري دون أن تعتمد الوزارة الميزانية اللازمة لإنشائه وهو مشروع طموح للتدريب والإنتاج للثقافة الشعبية في كل مجالاتها فضلا عما يوفره من اسواق لمنتجات هذه الحرف التي تمثل أنماط التراث جميعا بكل المحافظات. أما الناقد سيد هويدي فيقول علي الرغم من ان اتجاه النظام السابق إلي الخصخصة وقوانين السوق, إلا أن التناقض الصارخ كان في البقاء علي وزارة الثقافة كوزارة خدمية يتم الإنفاق عليها من أموال الشعب, لكن المدهش أن سياستها اتجهت للعابر والظاهر وليس الأصيل والحقيقي وغلب علي النشاط الثقافي في الثلاثين عاما الأخيرة المهرجانات والترفيه في غياب الهدف الرئيسي للثقافة وهي الصناعات الثقافية, التي تطرح مفاهيم عصرية وتساهم في تكوين وجدان الشعب, كمشاريع النشر الكبيرة أو الفنية, من خلال التشجيع علي أعمال عميقة التأثير ومعبرة عن الضمير الجمعي. ويؤكد هويدي أن انشغال الإدارة الثقافية كان بالتكريس لحماية النظام لتصبح سياستها هي الامن الثقافي فيما يشبه سياسة الأمن المركزي في حمايته للنظام وهو ما اعلن عنه وزير الثقافة الاسبق فاروق حسني برغبته دخول المثقفين الحظيرة, وظهر مفهوم أن الثقافة خدمة بدلا ان تكون حقا اصيلا لكل الشعب بطوائفه وانتماءاته في ظل التعددية, فقد تجاهلت الثقافة المصرية في الفترة الماضية خلفاء الرأي وأصحاب الاتجاهات السياسية المناهضة, وحكمت علي الكثيرين بالنفي, وفي هذا المناخ المتردد وفقدان البصلة الوطنية وغياب دور الدولة, غابت الصناعات الثقافية التي تحتاج إلي مناخ من الحرية والعلم والإبداع والتطوير حتي يكون لها مردود اقتصادي يسمح باستمرارها او انها تصبح موردا اقتصاديا مهما كما كانت السينما في يوم من الايام. ويشير هويدي إلي ان كثيرا من بلدان العالم تجعل من ضمن مشاريعها القومية النهوض بالحرف التقليدية الدقيقة من خلال بنية اساسية وورش عصرية تسمح بممارسة الحرف, لكن هذا لا ينفذ في مصر لأنهم أرادوا نزع الحرفيين من اماكنهم, لذا لابد من خطط تدريب وتوسيع لقاعدة المشاركة ونقل الخبرات من اجيال سابقة للأجيال الجديدة, والعمل علي ابحاث تتلق بهذا المجال للحفاظ علي الموروث وتطوير مفهوم عصري للحرفة كي تلائم العصر. والفكرة الاهم هي التسويق والعمل علي ان يكون المنتج متاحا للمواطن المصري والاجنبي, من خلال مشاريع الإنتاج التي تعد بدقة أي يكون أسعار السلع وفق دراسة علمية, مثلما فعلت الصين وأغرقت الأسواق بمنتجاتها الحرفية.