قبل الثورة, كانت كل الملفات مرتهنة, حبيسة الأدراج, الجمهور كان هو سيد الموقف, الملف الوحيد الذي كان نشيطا وفعالا هو ملف التوريث, وهو الذي قاد الجميع الي الثورة وأسقط النظام بكامله, وطرح إعادة بناء الدولة من نقطة الصفر, الرئاسة, البرلمان, الوزارة, المحليات, الدستور, القطاع العام, الأحزاب, الطوارئ, المياه وحوض النيل, الفساد, الخصخصة, الإعلام, التيارات الدينية, الأقباط, الوحدة الوطنية, البورصة, الاستثمارات, تقريبا لا يوجد ملف واحد غير مفتوح الآن, البطون كلها مفتوحة, ومشارط الأطباء لا تتوقف عن إجراء الجراحات الصعبة. تأتي صعوبة هذه الملفات, من كونها تضم في وقت واحد, عمليات تصفية النظام القديم, وتصورات بناء النظام الجديد. تقريبا لا يوجد خلاف علي الملف الأول, أما الملف الثاني وهو الأخطر, فعليه خلافات كثيرة.. تقريبا الخلاف موجود علي كل شيء, وكلما تشعبت الملفات تعمقت الخلافات وكثرت الاجتهادات وتعالت الأصوات وارتفعت الضوضاء وتاهت الطلبات وحضرت التفاصيل, بحيث ننسي من أين نبدأ, وننسي الي أين ننتهي. كل الأمور الآن متحررة من كل قيد أو عقال أو ضبط أو ربط أو تحكم من أي نوع, المسائل رجراجة وسائبة, بصورة ما إن تتبلور ويظهر معها شيء من اليقين والوضوح, حتي تعود الي سيرتها الأولي ويسودها الشك والغموض. هذه خبرة جديدة تماما علينا, تحتاج منا الي تدريب ومران, والي مصابرة وتماسك, وإلا فإن البديل يبدأ بالتشوش والاضطراب, الذي يؤدي الي النفور والانصراف, حيث تبدأ حالات الزهق والعزوف من متابعة الشأن العام, ومن ثم الهروب الي ألوان جديدة من السلبية والعزلة. حالة الجمود السابقة علي الثورة كانت السبب في عدم المشاركة وفي السلبية والانعزال الجماهيري عن الشئون العامة. حالة الانفلات التالية علي الثورة, لو لم يتم ترشيدها, وتعويد الناس علي الصبر عليها, يمكن أن تؤدي بنا الي نفس النتيجة, يهرب منا الناس, ويذهب كل منهم الي حال سبيله وأكل عيشه ورعاية مصالحه, اذا لم يجد نفسه قادرا علي فهم ما يجري حوله وما يراد به وما يخطط له.