ظلت مدينة المحلة الكبري بمحافظة الغربية مركزا مهما لتسويق وتجارة وصناعة القطن المصري حتي فترة الستينيات من القرن الماضي, قبل أن تصيبها قرارات التأميم وتتراجع معها هذه الصناعة المهمة التي باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة نتيجة الإهمال الذي أصابها أخيرا.. فقد نجح رجل الاقتصاد العظيم طلعت باشا حرب بمعاونة رجال المال والصناعة داخل المدينة في أن يحول المحلة من مجرد إقليم زراعي متواضع إلي قلعة صناعية ضخمة لها مكانتها علي الخريطة العالمية, عندما شرع في بناء أول محلج مصري للقطن, وهو شركة مصر لحليج الأقطان, وقام بافتتاحه رسميا مع رئيس وزراء بلجيكا عام1924 من أجل مواجهة احتكار الأجانب لهذه السلعة الإستراتيجية حيت كان الإنجليز واليهود واليونانيون هم المسيطرون علي محالج وتجارة القطن ويستأثرون بالمكاسب كلها علي حساب المصريين. بعدها أنشأ شركة مصر للغزل والنسيج عام1927 لتصبح ثالث شركة علي مستوي العالم في صناعة المنسوجات, حتي جاءت قرارات التأميم التي أطلقتها ثورة يوليو وإهمال زراعة القطن طويل التيلة لتطيح بأحلام المحلة ومحالجها ومصانعها التي تحولت بمرور الزمن إلي مجرد ذكري وأطلال بعد أن كانت تستحوذ علي75% من تجارة محصول القطن, ويأتي بعدها بورصة مينا البصل بالإسكندرية حيث تفوقت المحلة علي الجميع في إنتاج القطن الزهر الذي جلب بذوره الأولي محمد علي باشا من جزر الهندالشرقية وزرعها في حديقة قصره وأشرف عليها واستكثرها المهندس اليوناني اجان سكلارديسب وسمي هذا الإكثار باسمه لفترة طويلة كما عرف هذا النوع في العالم بطول التيلة ونعومة الملمس وكان التعامل مع القطن بالجنيه الذهب الذي كانت قيمته تساوي وقتها97.5 قرش. يقول عبد الحميد سالم, مهندس سابق بشركة مصر لحليج الأقطان: إن معظم محالج المحلة كان يطلق عليها االوابورب حتي فترة الخمسينيات, وكانت ملكا للأجانب; منها وابور الحلاجة الذي كان يملكه الخواجة الإنجليزي اكارفلب ولم يبق من هذا المحلج أثر سوي مبني الإدارة الذي تشغله مدرسة النصر الابتدائية حاليا.. ويضيف: أما محلج الإنجليز لصاحبه اأولبرايت بيل فقد ظل شاهدا علي واحدة من قصص الحب والوفاء النادر; حيث كان الرجل يعشق المحلة بجنون, ولكن شهدت نهايته قصة حزينة ومأساوية, بسبب تأميم محلجه, فلم يتحمل الصدمة وقرر الانتحار من فوق سطح منزله الذي كان يشغل مساحة من أرض المحلج.. وتابع: اأما اليونانيون فكان من نصيبهم محلج يني كبرياؤس بمنطقة السبع بنات والذي آلت ملكيته بعد ذلك لشركة الإسكندرية التجارية, في حين أقام الخواجة حبيب بولاد وابورا ضخما بجوار السكة الحديد قبل ميدان الشون بقليل وكان بجواره وابور يحتوي علي قصر بجنينة للخواجة متنياي وبقرب قنطرة ابزوز وابور آخر للأمير حسين باشا يكن, أما اليهود فقد تولوا إدارة هذه التجارة, وكان يطلق عليهم االصيارفةب ولهم محلات مهمتها الأساسية القيام بأعمال البنوك وأشهرهم أبو كاسيس ومزراحي والأخوان حنيكاتي. ويضيف أحمد السعيد موسي, أحد كبار تجار القطن سابقا, أن المحلة انفردت أيضا بوجود أربع حلقات رئيسية للقطن وهو المكان الذي كانت تتم فيه عملية التسويق, حيث كان الفلاح ينقل المحصول إلي داخل الحلقة عند صاحب أي دكان يطمئن إليه, وكان يطلق علي صاحب هذا الدكان اقبانيب ولا بد أن يحمل رخصة ويعمل معه موظفون تكون مهمتهم عرض المحصول بطريقة تقليدية وهي قطع كيس القطن من ثلثه الأخير وإخراج عينه للمشتري ويدور بينهم النقاش حتي يتم الاتفاق علي سعر فتتعالي كلمة ااستبينهب وتعني امضبوط أو تمامب وكان مع المشتري أومندوبه داخل الحلقة موظف صغير يطلق عليه احامل كوز النيشانب ومهمته كتابة اسم المشتري برموز تجارية متفق عليها بعدها تنقل أكياس القطن بعد إتمام عملية الوزن بمعرفة صاحب الدكان واستخراج علم رسمي بالوزن للفلاح يحصل بموجبه علي ثمن المحصول بعد تقديمه للصيارفة اليهود والشوام المنتشرين داخل الحلقة, وكانوا يتولون هم تحصيل قيمة العلم من التاجر المشتري االحليجب وذلك نظير عمولة خمسة مليمات اتعريفةب عن كل جنيه.. بينما أعرب سعد حليم, عامل بمحلج شركة النيل, عن حزنه للحالة المتردية التي آلت إليها جميع المحالج بالمحلة بعد تدمير مبانيها وتوقف غالبية الماكينات التي تم استيرادها من إنجلترا عن العمل; حيث كان معظمها قد صمم لحلج القطن طويل التيلة الذي تراجعت سياسة الدولة عن زراعته منذ سنوات طويلة وبدلا من قيام المسئولين بإجراء أي أعمال تطوير أو تجديد لها تركوها حتي أكلها الصدأ كما امتدت المأساة بعدما اتجه المسئولون إلي التخلص من الكوادر أصحاب الخبرة والعمالة المهرة المدربة بفتح باب الخروج للمعاش المبكر والتفرغ لبيع أصول وممتلكات الدولة التي كانت مثار فخر للجميع كان منها عرض أرض محلج شركة الدلتا بوسط المدينة العمالية للبيع في المزاد العلني بعد قيام بنك مصر بالحجز عليها وبيع أرض محلج الخواجة ابولادب بالكامل لصالح رجال أعمال وتأجيرها ملاهي, أما المثير للشفقة هو قيام مسئولي شركة مصر لحليج الأقطان التي أسسها طلعت باشا حرب بالتنازل عن جزء من أرض شونة القطن لتأجيرها كملاعب حديثة للكرة الخماسية وجيمانيزيوم بينما لاتزال عنابر محلج شركة النيل التاريخية التي بناها الإنجليز مهجورة تسكنها الأشباح وسط حسرة وأسي أهل المحلة.