منذ الحرب العالمية الثانية, وأمريكا هو الفاعل الدولي الأكبر في منطقتنا, ورثت النفوذ الأوروبي, ثم تخلصت من الوجود الروسي, ثم انفردت تماما بهذا الإقليم, وأسست معادلة استقرت لما يزيد علي أربعة عقود: الطرف الأول والحاكم من هذه المعادلة هو الالتزام المطلق بحماية أمن إسرائيل, مثلما تلتزم بحماية كل شبر من التراب الأمريكي. تمكين أنظمة عربية حاكمة تقبل بهذا الالتزام, ولم يكن هناك فرق بين نظام وآخر إلا في الافراج الشكلي فقط, مراعاة لخصوصية كل بلد عربي. السماح لبعض الأنظمة, في بعض الأوقات, بإصدار خطاب تعبوي قومي فيه رائحة مناهضة إسرائيل, لدواعي الاستهلاك المحلي, دون أن يؤثر ذلك علي المواقف العملية لهذه الأظمة طالما بقيت ولو في السر ملتزمة بعدم العدوان المادي علي إسرائيل. هذه الأيام, تجري أمريكا تعديلات سريعة في هذه المعادلة, بحيث تبقي ملتزمة بأمن إسرائيل, وفي الوقت نفسه تفحي بحلفائها من الأنظمة العربية, وهنا نجد أمريكا تكاد تكتفي بالحليف التركي فقط دون سواه, وهو يحمل رسائلها الي العالم العربي, وينتقل المسئولون الأتراك بين العواصم العربية, كما لو كانوا مبعوثين أمريكيين, والتصريحات التي لا تريد أمريكا إصدارها من البيت الأبيض أو الخارجية أو الدفاع أو الكونجرس, يتم تمريرها الي أنقرة, لتصدر عن جول أو أردوغان أو أوغلو... طبعا أمريكا جاهزة بالخطط المفصلة لما بعد اسقاط الأنظمة العربية التي تحالفت معها عقودا طويلة, ثم استغنت عنها, وتريد أنظمة جديدة وبديلة.. أمريكا تتوهم أن الشعوب العربية يمكن توجيهها بنفس السهولة التي يتم بها توجيه الأنظمة, وتتخيل أنها قادرة علي إدارة عقليات الشعوب والتلاعب فيها. وما تنساه أمريكا هو أن الثورة الشعبية في كل بلد عربي, هي ثورة ضد الأنظمة, وثورة ضد أمريكا, وثورة ضد إسرائيل, كل ذلك في وقت واحد, حتي لو لم يرفع الثائرون شعارات تناهض أمريكا وإسرائيل.. هنا مكمن الغباء الأمريكي الفادح, هي لا تعرف أنها كانت أداة في يد الأنظمة المتساقطة لقمع الشعوب, هي بإختصار شديد من فلول الماضي ومن بقايا عصور الاستبداد والقمع.. أمريكا سوف يأتي عليها الدور, ولن تستطيع أن تحمي أمن إسرائيل, ولن تستطيع أن تحمي أمن مصالحها في عالم عربي يمتلئ بالثورات ويطلب الحرية, التي وقفت أمريكا في وجهها علي مدي ستين عاما.