دفعه الحنين لزيارة المدرسة الإعدادية التي عمل فيها سنوات طويلة مدرسا للرسم..وهناك راحت عيناه تبحثان في شوق عنها; تلك اللوحة العملاقة التي رسمها وكانت تزين البهو الرئيسي للمدرسة..لكنه لم يجدها. سأل الفنان مصطفي بط أين اللوحة التي كانت تصور مصر فلاحة جميلة وراءها الأهرامات وأمامها الدنيا؟..فكانت المفاجأة المذهلة!..دولاب كبير متهالك في حجرة المدرسين كان في حاجة لإصلاح, فاستعانوا باللوحة وثبتوها في الجانب الخلفي منه. جري الفنان بط واشتري لوحا كبيرا من الأبلكاش وعاد إلي المدرسة ليصلح بنفسه الدولاب ويسترد اللوحة ويعالجها قدر المستطاع من سهام المسامير التي أصابتها من كل ناحية لكي تستقر هذه اللوحة الآن في مرسمه بمدينة شبين الكوم, محافظة المنوفية, كشاهد ملموس ومجازي عن مكانة الفنون في مدارسنا العامة. فقد تراجع الاهتمام بالفنون كالرسم أو الموسيقي وكأنها مواد يمكن الاستغناء عنها, بينما هي في الواقع ضرورية لبناء إنسان قادر علي رؤية الجمال وتذوقه والإضافة إليه. ولكن إذا كان كثير من الطلاب لايذهبون أصلا إلي مدارسهم, وإذا كان تدريس باقي المواد لايتم بالمستوي اللائق أو لا يتم علي الإطلاق..فهل يجوز عتاب وزارة التربية والتعليم علي تقصيرها في دعم تدريس الفنون؟! وإذا تركنا هذه القضية الشائكة وعندنا إلي الفنان مصطفي بط الذي تقتني كثير من المؤسسات العامة والمتاحف المصرية لوحاته لوجدناه يواصل بهدوء ودأب الإبداع وتجريب خامات وأساليب مبتكرة..يقضي ساعات طويلة في مرسمه بشبين الكوم التي تحولت كمعظم مدننا للأسف إلي بيئة ريفية تسودها مظاهر التحضر العشوائي من زحام وقبح معماري وضجيج فاحش وتلوث ناتج عن سيارات عتيقة لايصح أبدا أن تسير علي أي طرقات. ولا يمكن بأي حال إعفاء المسئولين المحليين من مسئوليتهم عما آل اليه حال هذه المدينة..ولعل أبرز مثال علي ذلك الحديقة العامة التي تمتد لعدة أمتار في مواجهة بحر شبين, كبقعة خضرة جميلة وسط كهذا البؤس..الحديقة تتحول الآن إلي جراج بمباركة من مجلس المدينة رغم رفض المواطنين واستغاثاتهم..تري ما هي المصلحة التي ستعود علي صاحب هذا القرار والتي تعلو علي المصلحة العامة؟..لماذا يسعي المسئولون إلي إضافة مزيد من القبح بدلا من العمل علي إنشاء مزيد من الحدائق العامة ونشر الجمال؟ كل هذا يحدث والفنان بط يواصل في صمت الإبداع داخل مرسمه شأنه شأن مئات الفنانين المنتشرين في كل مدن مصر..تظل أعمالهم حبيسة مراسمهم بينما ينتشر القبح والاعتداء علي الجمال في مدنهم. لو كنت مسئولا لقررت فورا الاستعانة بهؤلاء الفنانين في تخطيط وتحسين منظر الشوارع والميادين..ولاستعنت بأعمالهم لتجميل الأماكن العامة. وفكرة عرض الأعمال الفنية في الأماكن العامة ليست بدعة غريبة..بل معمول بها في كثير من المدن حول العالم. وقد نفذت مؤسسة سميثسونيان الأمريكية هذه الفكرة في حملة موسعة الصيف قبل الماضي عندما اختارت نحو ستين عملا لفنانين أمريكيين وقامت باستنساخها ونشرها في خمسين ألف مكان عام حول المدن الأمريكية..من مواقف الأتوبيسات إلي محطات المترو. وكان هدف الحملة نشر الوعي بالتراث الفني الأمريكي علي مدي أكثر من مئتي عام وتشجيع الناس علي زيارة المتاحف الفنية. أما بالنسبة لمصر..فالأمر أكبر من مجرد تسويق الثقافة الفنية..إنه يتعلق بدور الفنون والفنانين في تحسين نوعية الحياة..فعندما ينتشر الجمال يرتقي الذوق العام ويزيد إدراك الناس ورفضهم لمظاهر القبح..عندما ينتشر الجمال قد تصير المدن أكثر هدوءا ونظافة وقد يصبح سلوك الناس أكثر تهذيبا..ولكي يتحقق ذلك يجب ألا نترك الفنان بط وغيره من الفنانين في أبراجهم العاجية..لابد أن تصير إبداعاتهم جزءا من حياتنا اليومية.