هناك ما يشبه الإجماع علي أن منطقة الشرق الأوسط تشهد نوعا من التغيرات البنيوية والهيكلية التي سوف ينتج عنها في النهاية تغيرات جذرية سوف تقضي علي ملامح الواقع القائم, وسوف تضرب في العمق الكثير من الكيانات القائمة لصالح أشكال وتوازنات جديدة لم تستقر بعد, إذ انها ما زالت في طور التفاعل والتشكل, وتتسم بدرجة عالية من عدم الوضوح وغياب اليقين. ونتيجة لذلك فإن هناك خلافا حول تحديد وترتيب أولويات هذه التهديدات مع غياب الإشارة إلي وجود فرص, الأمر الذي يعني في تعريفه العام وجود ارتباك استراتيجي. وبتعبير أكثر حدة: حالة من الفوضي الإستراتيجية التي تتسبب بدورها في نوع من الفوضي الفكرية. فهناك علي الأقل ثلاثة عوامل رئيسية, تتشابك خيوطها مع خيوط معظم الأحداث الدائرة في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. أولها الانتقال من هيكلية دولتية واضحة إلي نشوء عناصر غير دولتية, حيث أوجد ضعف الدول في المنطقة فراغا في الحكم ملأه لاعبون آخرون, في موازاة تعاظم أثر المكونات الإثنية والدينية والثقافية والأهلية, علي حساب الهوية الدولتية الوطنية الجامعة. وهذه ظاهرة بارزة علي نحو خاص في دول تشهد حروبا أهلية مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن, ويمكن ملاحظتها أيضا بمستويات منخفضة في السعودية والأردن ولبنان, وكذلك في كيانات غير دولتية مثل السلطة الفلسطينية في الضفة وسلطة حماس في غزة. ولقد جري الحفاظ علي الهوية الدولتية بشكل متماسك وربما قوي في دول لها جذور تاريخية عريقة مثل إيران ومصر وتركيا. ومن الواضح أنه علي الرغم من أي محاولة لإعادة فرض النظام القديم علي الدول الفاشلة في المنطقة, فإن العودة إلي الوراء تبدو غير ممكنة, ويجب الاستعداد لنشوء نظام وهيكليات جديدة في المنطقة. ثاني هذه العوامل الرئيسية هو غياب القدرة علي بناء أحلاف أو مشروعات تعاون طويلة المدي, نتيجة الفوضي الإقليمية التي تضطر جميع الأطراف إلي الاعتماد علي مصالح متداخلة قصيرة الأجل, يمكن أن تتغير بين عشية وضحاها, بسبب تعقد واختلاف التهديدات الداخلية والخارجية لدي كل طرف وتناقضاتها في بعض الأحيان. وعليه, يجب البدء بالاستعداد ذهنيا لأنشطة محددة لفترات قصيرة الأجل وليست بعيدة الأجل. الاتجاه الثالث هو التحول من حرب بين جيوش نظامية, إلي حرب غير متناظرة في مواجهة أعداء من أنواع هجينة وصعود مكون الإرهاب, وينبني علي هذا تصاعد دور بناء الوعي وصناعة الصور كوسيلة لتحقيق أهداف إستراتيجية في المنطقة وخارجها, والنموذج الأبرز هو تنظيم داعش واستخدامه الماهر لوسائل التواصل الاجتماعي, كي يشيع الخوف وينشر أفكاره حول العالم. وبالنسبة لنا في مصر يلاحظ ان هناك غيابا واضحا لأثر وتداعيات هذه التطورات وانعكاساتها المتعددة علي الداخل المصري وعلي الأفق والمدارات التي يتحرك فيها الرأي العام والتي كان الجدل والاستقطاب العنيف المهدد للاستقرار في أزمة الجزيرتين احد الأمثلة المعبرة عنها, حيث يمكن ملاحظة ان هناك نوعا من الانكفاء علي الذات مع تصورات عامة مبتسرة بان أوضاع مصر واستقرارها مسألة سرمدية, أو أنها تتمتع بحصانة تحول بينها وبين الانزلاق إلي مهاوي الدمار والخراب.. او انها بمنأي عن المخاطر المحدقة بها من الاتجاهات الاستراتيجية الثلاث الرئيسية التي تهدد أمنها القومي. الأمر الذي يستوجب إعادة النظر والقيام بحزمة واسعة من التغيرات في طريقة وأسلوب النظام القائم وخطابه السياسي غير واضح الملامح, والتحول الي معالجات مختلفة تقوم علي استصحاب الرأي العام بالحوار الموضوعي والمعلومة الصحيحة والتحليلات المعمقة.